تتوالى الحوادث والحرائق داخل شركات الكهرباء في مصر، وتبقى الأسئلة معلقة حول أسباب تلك الكوارث والمسؤولين عن إهدار المال العام وغياب المحاسبة.
يبدو أن شركة القناة لتوزيع الكهرباء وشركة جنوب الدلتا لتوزيع الكهرباء، ومعهما الشركة القابضة لكهرباء مصر ووزارة الكهرباء والحكومة المصرية، غارقة في دوامة من الفساد والإهمال.
ورغم كثرة الحوادث والكوارث التي تتكرر بين الحين والآخر، لم نجد من يتحمل المسؤولية أو يواجه المحاسبة. إذن، إلى متى تستمر هذه الحلقة المفرغة؟
القصة تبدأ بحريق غرفة كبار المشتركين بشركة القناة لتوزيع الكهرباء
كان ذلك اليوم عاديًا إلى أن اندلعت النيران في غرفة كبار المشتركين بشركة القناة لتوزيع الكهرباء. القصة كانت قد بدأت أثناء وجود المهندس سامي أبو وردة، رئيس مجلس إدارة الشركة، في مكتبه في وقت الحريق، وهو ما يثير تساؤلات عدة حول توقيت هذا الحادث. فالجميع يعلم أن هناك خللًا كبيرًا في إدارة الشركة، وأن هذا الحريق لم يكن حادثًا عاديًا بل وراءه فساد كبير.
من الواضح أن الحريق جاء ليغطي على سلسلة من التجاوزات والمخالفات التي ارتكبت داخل الشركة. هذه المخالفات تمت تحت أنظار الجميع، بما في ذلك بعض كبار المسؤولين في الشركة، والذين كانوا على موعد مع هذا القدر. إذ يبدو أن الحريق جاء ليخفي الأدلة المتعلقة بهذه المخالفات الجسيمة التي تورطت فيها الإدارة العليا.
اللجان الفنكوشية للشركة القابضة لكهرباء مصر
أما عن لجان التحقيقات التي تشكلت في أعقاب الحريق، فلم تكن سوى لجان شكلية، هدفها الرئيسي تبرئة المسؤولين الكبار والبحث عن كبش فداء صغير لتحميله كامل المسؤولية. تلك اللجان كانت بإشراف مسؤولي الشركة القابضة لكهرباء مصر ومستشاريهم القانونيين، والذين كانوا بدورهم متورطين في فساد النظام بأكمله.
فبدلًا من ملاحقة المتورطين الحقيقيين، تم التضحية بصغار الموظفين، بينما ترك كبار المسؤولين دون أي حساب. من المؤسف أن قوانين الدولة التي تجرم نهب المال العام لم تجد طريقها للتطبيق في هذه الواقعة، بل تم تجاهلها عمدًا.
بيان متناقض من شركة القناة حول الحريق
بعد وقوع الحريق، خرج بيان رسمي من شركة القناة لتوزيع الكهرباء يزعم أن السبب وراء الحريق كان “مبرد مياه”. هذا التفسير لا يدخل في عقل عاقل، خاصة أن الحادث وقع في فصل الشتاء، حيث لا حاجة لاستخدام مبردات المياه. ما يعزز الشكوك هو أن الغرفة التي اشتعلت فيها النيران كانت في الطابق الثالث وكانت تستخدم لأرشفة محاضر الضبط، التي توثق مخالفات كبار المشتركين.
توقيت الحريق ليس من قبيل الصدفة، فقد جاء قبل أسبوعين فقط من نهاية التحقيقات التي كانت تجريها لجنة غير محايدة من الشركة القابضة لكهرباء مصر. تلك اللجنة التي كانت قد نقلت كافة المستندات المتعلقة بالمخالفات إلى غرفة كبار المشتركين، ليتم حرقها وتخفيف آثار الفساد الذي تورط فيه كبار المسؤولين.
مناشدة الجهات الرقابية للتحقيق في الفساد المستشري
في ظل هذا الفساد المتفشي، أصبح من الضروري تدخل الأجهزة الرقابية والقيادة السياسية للتحقيق في هذه القضية. ليس فقط الحريق الذي وقع في شركة القناة لتوزيع الكهرباء، بل أيضًا العديد من الملفات الأخرى التي تعج بالفساد.
القيادات المسؤولة في الشركة القابضة لكهرباء مصر، وعلى رأسهم المهندس جابر دسوقي، لم يحركوا ساكنًا لوقف نزيف الأموال العامة. ما زال إهدار المال العام مستمرًا، والكوارث تتوالى، ولم نجد من يقوم بمحاسبة المسؤولين.
حرائق متكررة في محطات الكهرباء وإهمال السلامة المهنية
حرائق المحولات والمحطات أصبحت مشهدًا متكررًا في قطاع الكهرباء، وكلفت خزانة الدولة عشرات المليارات من الجنيهات. حرائق وانفجارات في محطات عدة، مثل محطة غرب أسيوط، محطة القناة، محطة الغردقة، محطة طلخا، ومحطات أخرى. كل هذه الحوادث نتجت عن الإهمال الجسيم في إدارة السلامة والصحة المهنية داخل الوزارة والشركة القابضة.
ما يزيد الأمور سوءًا أن قيادات الكهرباء لا يعيرون أي اهتمام حقيقي لإدارة السلامة والصحة المهنية. هذه الإدارة التي ينبغي أن تكون في صلب عمل القطاع، أصبحت مجرد واجهة شكلية تملأ الهيكل الإداري دون أن يكون لها أي تأثير حقيقي. بل إن بعض المسؤولين في الشركة يستخدمون هذه الإدارة كوسيلة لمعاقبة الموظفين الذين لا يروقون لهم بنقلهم إليها.
الخسائر البشرية والمالية بسبب الإهمال
نتيجة لهذا الإهمال، فقد العديد من المهندسين والفنيين أرواحهم أو تعرضوا لإصابات بالغة خلال عملهم في الصيانة. محطات مثل غرب أسيوط، القناة، الدلتا، وغيرها شهدت حوادث مؤلمة كان من الممكن تجنبها لو تم تطبيق إجراءات السلامة والصحة المهنية بشكل صحيح.
وفي كل مرة تتكرر الحوادث، نجد أنفسنا أمام خسائر مالية كبيرة تقدر بالمليارات. ومع ذلك، لا نجد من يتحمل المسؤولية. المحطات تشتعل، والمال العام يهدر، ولا يزال الفساد يسيطر على القطاع دون رادع.
الشركة القابضة تتجاهل خسائر الدولة وتواصل الإهدار
منذ سنوات والحكومة المصرية تنفق المليارات لإنشاء محطات الطاقة، ولكن الفساد المستشري في الشركة القابضة لكهرباء مصر ووزارة الكهرباء يحول دون الاستفادة الكاملة من هذه الاستثمارات. الحكومة أنفقت أكثر من 600 مليار جنيه لإنشاء محطات توليد الكهرباء، بعضها عن طريق قروض بمليارات الدولارات، وبعضها بموجب مديونيات مؤجلة بفوائد كبيرة.
ورغم ذلك، لا تزال الحوادث تتكرر، ولا نرى أي محاسبة للمسؤولين. قروض بمليارات الجنيهات تهدر، ومشاريع كبيرة تتعثر بسبب الفساد، ولم نجد من يضع حدًا لهذه الكارثة.
محطة التبين: دليل آخر على الفساد المستشري
من بين الحوادث التي يجب أن نسترجعها دائمًا محطة التبين، التي احترقت بالكامل في حادثة مروعة. في ذلك الوقت، خرج المهندس جابر دسوقي، رئيس الشركة القابضة لكهرباء مصر، بقرار غريب حيث قام بترقية المسؤول عن تلك الحادثة، المهندس علي حسن، ليصبح رئيسًا لشركة الوجه القبلي لإنتاج الكهرباء.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فعندما تولى علي حسن مسؤوليته الجديدة، تسبب في تدمير الوحدة الرابعة بمحطة الكريمات الثالثة. كل هذه الوقائع تؤكد أن الفساد والإهمال لم يتوقفا عند محطة التبين، بل امتد إلى محطات أخرى.
الحريق في شركة جنوب الدلتا: المزيد من الأسئلة دون إجابات
ولم تكن شركة القناة لتوزيع الكهرباء الوحيدة التي شهدت حوادث مريبة. في شركة جنوب الدلتا لتوزيع الكهرباء، وقع حريق آخر في غرفة “كول سنتر”. البيان الرسمي للشركة زعم أن الحريق كان بسبب ماس كهربائي. ومع ذلك، تساؤلات كثيرة تثار حول هذا البيان، خصوصًا أن أجهزة الإنذار الآلي ومضخات الحريق كانت حديثة التركيب وكلفت الدولة ملايين الجنيهات.
إذا كانت هذه الأجهزة فعالة كما يزعم المسؤولون، فلماذا تطلب الأمر استدعاء أسطول كامل من سيارات الإطفاء التي ظلت تعمل لساعات لإخماد الحريق؟ هذه الحادثة تم حفظها إداريًا كالعادة، بدعوى أن السبب هو “الماس الكهربائي”، وتجنبوا التحقيق في الأسباب الحقيقية للحريق.
أين المحاسبة الرادعة؟
يبدو أن قطاع الكهرباء في مصر غارق في الفساد والإهمال، والحكومة المصرية لم تقم حتى الآن بأي خطوات حقيقية لمعالجة هذه الأزمة.