مشهد كارثي يلوح في الأفق وسط أجواء مشحونة بالإحباط والاحتقان الاجتماعي حيث جاء قرار البرلمان بالموافقة المبدئية على مشروع قانون الإجراءات الجنائية ليشكل مفترق طرق حاسم في تاريخ النظام القضائي المصري
هذا المشروع الذي طالما دارت حوله الحوارات والجدل لم يكن سوى تأكيد لواقع مرير من التراجع عن الحقوق الأساسية للمواطنين وإغفال صارخ لدعوات المجتمع المدني التي كانت تطالب بحوار موسع شامل قبل الشروع في مناقشته ولكن رغم ذلك وعلى الرغم من محاولات العديد من القوى السياسية والحقوقية إيقافه أو تعديل بنوده فقد تمضي الأمور كما لو أن ثمة شيء أكبر من مصالح المواطنين وراء هذا القانون
في ظل رفض البرلمان الاستماع لدعوات إرجاء المناقشات الخاصة بالقانون بدعوى ضرورة إجراء حوار مجتمعي عميق يبدو أن هناك إرادة لتسريع تمرير القانون بدون اعتبار لمخاطر تداعياته على الأمن الاجتماعي والحريات المدنية
ففي الوقت الذي دعت فيه الهيئة البرلمانية لحزب التجمع إلى ضرورة إجراء حوار وطني شامل حول النصوص المطروحة لم تجد هذه الدعوات آذاناً صاغية بل تم تجاهلها بشكل لافت من قبل البرلمان
رئيس مجلس النواب حنفي جبالي حاول تبرير تسرعه في إقرار المشروع بأدلة غير مقنعة حيث أشار إلى أن المناقشات قد جرت على مدار 12 جلسة إلا أن هذا التبرير لا يعدو أن يكون مجرد ستار يخفي وراءه الاستعجال الواضح في تمرير مشروع القانون على الرغم من جميع الاعتراضات التي تم التعبير عنها فقد زعم جبالي أن هذه المداولات شهدت توافد آراء من مختلف الجهات والنقابات المعنية وكأن هذه الآراء التي تم نقلها من خلال أعضاء اللجنة الفرعية تمثل تطابقاً تاماً مع مصالح الشعب وكأن البرلمان لا يحتاج إلى مزيد من الوقت للتحقق من مدى تأثير هذا القانون على شرعية الإجراءات الجنائية في مصر
بينما كان المستشار جبالي يغرق في حديثه عن “الإنجاز التاريخي” الذي تحقق بتمرير هذا القانون من حيث المبدأ لم تقتصر المناقشات على أعضاء البرلمان بل كان هناك حضور لعدد من غير الأعضاء الذين حاولوا تقديم ملاحظاتهم والتي بالطبع لم تجد استجابة حقيقية أو تأثير ملموس على التوجه العام إلا أن تلك الوعود بالتحليل العميق والمراجعة الدقيقة لمواد القانون في الجلسات المقبلة تظل مجرد كلمات فارغة طالما أن القرار قد اتخذ في النهاية
وتتوالى الصرخات من كافة الأطياف السياسية والمجتمعية اعتراضاً على بنود هذا المشروع الذي ينذر بالكثير من الأضرار على مستقبل العدالة في البلاد النقابات الحقوقية والصحفية قد فتحت النار على هذا المشروع وأكدت أنه يهدد حياة المواطنين وحرياتهم خاصة في مراحل القبض والتحقيق والمحاكمة حيث اعتبرت نقابة الصحفيين القانون بمثابة القنبلة الموقوتة التي تهدد الأمن الداخلي وتزيد من المخاطر التي تحيط بالحريات العامة في مصر نقيب الصحفيين خالد البلشي لم يتوان عن إظهار مخاوفه العميقة خلال مؤتمر صحفي حذر فيه من أن 41 مادة من مواد القانون تتناقض بشكل صارخ مع نصوص الدستور المصري كما أن 44 مادة تحتاج إلى تعديلات جذرية بما في ذلك مادتان هامتان تتعلقان بعمل الصحافة
القانون الذي تم تمريره من حيث المبدأ لم يواجه فقط من قبل الحقوقيين بل استنكرته مختلف الأوساط السياسية والفكرية التي اعتبرت أنه يضع مزيداً من القيود على حرية الرأي والتعبير ويكرس ثقافة الاستبداد في ظل تزايد سلطات الأجهزة الأمنية على حساب المواطن العادي هذا لا يعني أن البرلمان قد أخذ في الحسبان نتائج هذا التوجه بل على العكس، فقد أظهر إصراراً غير مسبوق على المضي قدماً في تمرير القانون بأي ثمن
ما يغذي المخاوف أكثر هو أن هذا القانون لا يتعلق فقط بحقوق الصحفيين أو الحقوقيين بل هو تهديد لكافة المواطنين حيث يعزز من قدرة السلطات التنفيذية على السيطرة على مجريات التحقيقات والمحاكمات دون أي تدخل من جهات خارجية وهو أمر يخشى العديد من المواطنين من أن يتحول إلى أداة لتقويض الديمقراطية وفتح المجال أمام الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان
وإذا كانت هذه هي الصورة المبدئية لمشروع القانون الذي يتسارع البرلمان على تمريره فإن التساؤلات تزداد حدة حول مواقف القوى السياسية ووسائل الإعلام من هذا المشروع وكيف سيتم تحريك هذا الملف على الأرض في الجلسات المقبلة بعد أن أصبح الموضوع أكثر تعقيداً بعد التصعيد الذي شهدته الساحة السياسية في الأيام الأخيرة
الأمر لا يتوقف هنا فحتى الآن لم تطرح أي حلول عملية أو توافقات حقيقية لتعديل المواد التي تعارضها غالبية القوى السياسية والشعبية في وقت تحتاج فيه مصر إلى ترسيخ القيم الديمقراطية وإرساء العدالة بشكل حقيقي وليس عبر مشروع قانون يسلب المواطنين بعض من حقوقهم الأساسية تحت شعار التطوير والتحديث ومن هنا تبدو الصورة أكثر قتامة ومظلمة في ظل التحديات الراهنة التي يواجهها المجتمع المصري