لا مستقبل لأي دولة عربية دون ديموقراطية، وأقصد هنا بالديموقراطية الحكم الرشيد الذي يحفظ حريات وحقوق الشعوب، ويصون مهابة وقوة السلطة، ويقوم على سيادة القانون، ويحترم كرامة المواطنين، وينمي موارد البلاد، ويقيم موازين العدل في توزيع مغارم ومغانم التنمية.
الحكم الرشيد الذي يعني أن مواقع السلطة، إنما هي خدمة عامة، وليست امتيازاً لشخص ولا فئة ولا طبقة ولا مؤسسة، بل خدمة عامة لصالح عموم المواطنين، ومن ثم، فمن حق المواطنين محاسبة السلطة ومساءلتها ومراجعتها في كل أمر، يتعلق بالصالح العام.
هذا الحق في المحاسبة والمساءلة والمراجعة، هو الكفيل بحماية السلطة من الانزلاق إلى خطرين: خطر الاستبداد، وخطر الفساد.
فهما الخطران اللذان يفسران لك المعضلة الملغزة: لماذا ترحب الشعوب بإسقاط الديكتاتوريات، سواء جاء السقوط بغزو أجنبي صريح أو غزو أجنبي مستتر أو بثورات شعبية بعضها حقيقي وأصيل، وبعضها يمتزج فيه ما هو وطني شريف مع ما هو تدخل أجنبي من وراء ستار!
الشعوب من طول المعاناة تحت حكم الديكتاتوريات، فإنها لا تبالي على أي نحو سقطت هذه الديكتاتوريات، المهم هو أن تسقط وكفى، المهم هو أن يتوقف أذاها عن مواطنيها، وفي الغالب، فإن الناس يظنون، أنه مهما يحمل المستقبل من مجهول، فإنه لن يكون أسوأ مما لقوه من عذاب تحت حكم الديكتاتوريات.
الشعوب يعنيها – بالدرجة الأولى- إنسانيتها وكرامتها وحريتها وحقوقها في خيرات وطنها، الشعوب يعنيها- في المقام الأول- أن تحظى بما لها من حريات وحقوق، مثلما تؤدي ما عليها من مسئوليات وواجبات.
الديكتاتوريات العربية- تحت شعارات الوطنية والقومية- تقتضي من المواطنين ما عليهم من التزامات وواجبات، ثم تحرمهم ما لهم من حقوق وحريات.
هذا الواقع الصلب المرئي الملموس الذي تراه وتلمسه وتعيشه الشعوب، وهو كاف جداً، حتى ترحب الشعوب بإسقاط هذه الديكتاتوريات بغض النظر عن أي كلام- مهما كان حقيقياً- عن خطط دولية لإعادة هندسة الشرق الأوسط لصالح الصهيونية والغرب، إعادة هندسة كل شيء فيه من الثقافات إلى الديانات إلى المجتمعات إلى النخب إلى الدول إلى الاقتصاد إلى السياسة، ذلك كله، بما يجعل هذا الشرق الأوسط الكبير من الباكستان حتى المغرب بيئة أليفة مع دولة الكيان التي جاءت لتبقى، كما مع مصالح الغرب الذي رحل كاستعمار، لكنه باق كهيمنة ونفوذ.
الدعوة إلى إعادة هندسة الشرق الأوسط، ظهرت مرتين في حقبتنا هذه التي نحن شهود عليها:
1- الأولى، في أعقاب غزو العراق للكويت أغسطس 1990، ثم حرب تحرير الكويت 1991، وقد ترافقت مع حدثين هامين: سقوط وتفكك واختفاء الاتحاد السوفيتي، ومعه الكتلة الشرقية، ثم انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم، باعتبارها القطب الذي انتصر في الحرب الباردة، واقتصرت فكرة الشرق الأوسط الجديد في ذاك الوقت على معنى واحد، هو انهيار فكرة العروبة ونهاية التضامن العربي، ما دام أن غزو بلد عربي جاء من بلد عربي، وعلى اعتبار أن حرب الخليج الأولى هي حرب بين عرب وعرب، وليست بين العرب وإسرائيل، كما كانت الحروب التي قبلها، وعلى هذا الأساس جرت عملية مفاوضات سلام، لا سابق لها بين الدول العربية وإسرائيل، أسفرت عن سلام مع الفلسطينيين، ثم الأردن.
2- ثم جاءت الدعوة الثانية للشرق الأوسط الجديد بعد ذلك بعشر سنوات، بعد أحداث 11 سبتمبر 2000م، مع عدة فوارق مهمة:
لم يعد اسمه الشرق الأوسط الجديد، بل الشرق الأوسط الكبير، ولم يعد مقصوراً على العالم العربي، بل امتد للعالم الإسلامي كله، ولم يعد دعوات للسلام والمفاوضات، وإنما إسقاط صريح للأنظمة الحاكمة، سواء بغزو عسكري مباشر أو مساعدة كفاح الشعوب للتخلص من الديكتاتوريات الحاكمة، وعلى هذا النحو تساقطت كافة الأنظمة التي رأى مهندسو الشرق الأوسط الكبير إسقاطها من أفغانستان 2001، ثم العراق 2003، ثم الباكستان 2008، ثم تونس، فمصر، فليبيا، فاليمن 2011م، ثم السودان 2019، ثم سورية 2024.
وقد ترافق مع هذه الهندسة ثلاث ظواهر كبرى:
1- المجيء بنموذج أردوغان في تركيا؛
ليكون مثالاً تطبيقياً على الشرق الأوسط الكبير من عدة زوايا، فهو عضو مهم في حلف الناتو الآلة العسكرية الأضخم لأوروبا وأمريكا، ثم هو علمانية أتاتوركية، تم تطعيمها بإسلام ثقافي وتعبدي وشعائري وتصوفي، بحيث أردوغان يرتاد الجوامع ولبس طواقي بيضاء، ويرتل القرآن المجيد على الملأ والسيدة حرمه ترتدي الحجاب، لكن ذلك كله في برواز العلمانية الأتاتوركية التي تحل كل ما أحلت أوروبا، وتحرم كل ما حرمت أوروبا ، ثم هو حليف رسمي وفعلي لدولة الكيان الصهيوني، مثله في ذلك مثل من سبقوه في تركيا العلمانية، مع إضافة خطاب مؤيد للحق الفلسطيني، ليس أكثر من عاطفة بعضها صادق ونبيل وأكثرها ثرثرة لفظية وميكيافيلية سياسية رخيصة، ثم هو ملتزم بأسس الديموقراطية التركية، فهو يأتي بانتخابات حقيقية غير مزورة، ومن 2002 تاريخ مجيء أردوغان، حتى انفراده بعملية إسقاط نظام الأسد في سورية 2024 أكثر من عشرين عاماً، حافظ أردوغان على تقدم متواصل في خمسة مسارات: القبول برضا شعبي داخلي يمكنه من الفوز في الانتخابات كل مرة، الحفاظ على مصالح دولة الكيان الصهيوني، الحفاظ على الولاء لأمريكا والغرب، الحفاظ على الأتاتوركية مع لمسات عثمانية، أخيراً الفوز بوظيفة الوكيل الحصري لأمريكا والصهيونية والغرب في الشرق الأوسط. انتزع أردوغان هذا الدور بجدارة، فشل فيها من قبله الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، كما فشل فيها صدام حسين في العراق.
3- يمكنك أن ترى مستقبل الشرق الأوسط الكبير في هذا المشهد:
1- سقوط ديكتاتورية عربية، هزمت مواطنيها، ثم دمرت وطنها، ثم رهنت نفسها ووطنها للخارج، ثم سقطت بتخطيط وتمويل وتسليح من الخارج، لكن رحب به الداخل، وابتهج له الشعب على اختلاف مكوناته.
2- اكتمال نموذج أردوغان بعد مثابرة منه وصبر من كفلائه ورعاته وضامنية قريباً من ربع قرن؛ ليكون النموذج الإرشادي لديموقراطية مع علمانية مع إسلام متصالح مع الصهيونية وموالي للغرب وموكل من أمريكا رأساً برعاية شؤون التحول نحو الشرق الأوسط الكبير.
3- شرق أوسط كبير بلا مقاومة وبلا إسلام سياسي موجه ضد الصهيونية، ولا مانع من إسلام سياسي، لكن بشرط التصالح مع الصهيونية وغض البصر عنها، والكف عن أذاها ولو بحجر من زلط، في النسخة المقبلة من الشرق الأوسط الكبير غير مسموح بحدف طوبة على إسرائيل.
4- بهزيمة المقاومة وإخراج إيران من سورية وسقوط ديكتاتورية البعث السوري، تكون حقبة قد انتهت بعد كفاح طويل من جانب أمريكا والغرب والصهيونية من أجل شرق أوسط بدون مقاومة ولا مانع في مقابل تحقيق هذا الهدف الكبير من تجريب الديموقراطية، ولا مانع من تجريب جماعات الإسلام السياسي، حتى لو كان لها سجل إرهابي، ولا مانع من توكيل تركيا بإدارة هذا التحول المهم.
في الخمسة وعشرين عاماً الأخيرة من 2000- 2024، اختل التوازن في الشرق الأوسط لصالح إيران ومن شايعها من الشيعة العرب، سواء في لبنان أو اليمن أو من السنة العرب، مثل حماس والجهاد الإسلامي في غزة ونظام الأقلية العلوية في سوريا الأسد سواء الأب أو الابن، فعلى نقيض الإجماع العربي في الحرب بين العراق وإيران 1980- 1989، اختار النظام السوري الانحياز إلى صف إيران ضد العراق الذي كان يحكمه في ذاك الوقت الفكر البعثي العربي الذي كان يحكم سوريا.
بعد خمسة وعشرين سنة من الآن 2048، تكون إسرائيل قد أكملت مائة عام، ويكون الشرق الأوسط الكبير الذي بدأ بعد 11 سبتمبر 2000، قد أكمل نصف قرن من عمره، وسوف تكون الدولة الوطنية في العالم العربي قد اختلفت ملامحها، وسوف تكون فكرة العروبة بما هي يقظة عربية ضد النفوذ الأجنبي قد ماتت، وسوف يكون الإسلام السياسي قد تم ترويضه وتطويعه وتوظيفه وإدماجه في بنية الشرق الأوسط الكبير، حيث بعض الديموقراطية مع بعض العلمانية مع ارتباط وثيق بأمريكا والغرب والصهيونية والرأسمالية، أردوغان لم يأت مصادفة عام 2002، والإسلاميون لم يأتوا مصادفة بعد الربيع العربي، والإسلاميون الجدد في سوريا 2024، لم يأتوا مصادفة، نموذج أردوغان ثبت نجاحه على أكثر من صعيد: إرضاء أغلبية كافية من الشعب التركي، إرضاء إسرائيل وأمريكا والغرب، كسب شعبية تتأرجح، لكنها قوية بين تيارات الإسلام السياسي سواء في العالم العربي أو الإسلامي، الأهم من ذلك كله إرضاء وكسب ثقة دوائر المال والصناعة والتجارة في العالم الرأسمالي، وبما يرضي الرأسمالية التركية أو خارج تركيا.
صحيح، أن أردوغان حافظ على الخطوط العريضة لميراث أتاتورك، لكن الصحيح كذلك أن أردوغان أسس لنفسه وتركيا وللإسلام السياسي شرعية غير مسبوقة، شرعية منسوجة من مهارته السياسية كحيوان سياسي مزود بغرائز ميكافيلية فائقة الجودة، أردوغان في استحواذه على المقاولة كاملة في سوريا الجديدة 2024م، جدد همة السلطان العثماني سليم الأول 1470- 1520 مرتين، في واحدة، سليم الأول في مطلع القرن السادس عشر، هزم الصفويون، ودخل عاصمتهم تبريز، ثم هزم المماليك، ودخل عواصمهم من حلب حتى القاهرة، كذلك أردوغان في سورية 2024، هزم إيران كما هزم آخر المماليك العرب.
أياً ما تكون الملاحظات على نموذج أردوغان، فهو يظل فكرة ملهمة لغيره، كما هو رؤية عملية، كما هو وعد ينطوي على أمل عند كثيرين، فقدوا الأمل، وبلغ بهم اليأس نقطة اللاعودة، لكن السؤال هو: هل المشروع الأردوغاني الذي هو تطبيق عملي لمشروع الشرق الأوسط الكبيرن هل له مستقبل؟ أم ينتهي بنهاية أردوغان؟ الجواب: المشروع لا يرتبط بشخص أردوغان، بل المشروع سابق على أردوغان، المشروع هو من جاء بأردوغان، وضمن له بيئة نجاح وظروف عمل مواتية، أردوغان ثمرة ناضجة من ثمرات المشروع الذي هو هندسة أمريكية لشؤون العالم الإسلامي، هذه الهندسة لم يبدأها الأمريكان من فراغ، إنما شادوها وأسسوها على تراث بريطاني هائل، فقد كان البريطانيون هم حكام الجزء الأكبر من عالم الإسلام، ما يقرب من قرنين من الزمان، من الهند حتى فارس حتى بين النهرين حتى وادي النيل، وقد اخترع البريطانيون أساليب ماهرة في ترويض الصحوات الإسلامية وتوظيفها وتسكينها في الإطار الواسع للمصالح البريطانية، لم تصطدم بريطانيا مع الحركات الإسلامية الكبرى من الهند وباكستان، حتى العراق وفلسطين ومصر باستثناء الحركة المهدية في السودان التي قاتلت الإنجليز ببسالة ورجولة وشرف، أما باقي الحركات الإسلامية، فلقيت الازدهار تحت الاستعمار البريطاني لأسباب، منها احتواء العاطفة الدينية لدى المسلمين وعدم استفزازها، ومنها استخدام الحركات الإسلامية في تفريق الصف الوطني وأضعاف قوة الحركات الوطنية التي رفعت لواء النضال لأجل الاستقلال والتحرر الوطني، هذا التراث البريطاني تطوره أمريكا في احتواء القوى الإسلامية، ثم في توظيفها في إطار التصور الأمريكي لبناء الشرق الأوسط الكبير. حتى في حال غياب أردوغان، فإن المشروع مستمر، وسوف يظل يزحف، ولن يتوقف عن الزحف، وليس من الحكمة الوقوف في وجهه، وليس من المصلحة السعي لإجهاضه.
……………………………………………………………
لكن الحكمة هي التقاط اللحظة، ثم إدراك معناها، ثم تقدير خطورتها.
الدولة العربية- الأنظمة الجمهورية، التي تأسست بعد الاستقلال، تحتاج مراجعة جذرية لكافة الأسس والمقومات التي انبنت عليها، وبالذات فكرة الحفاظ على الدولة بأي ثمن، ولو كان الديكتاتورية، ثم فكرة أن الديكتاتورية تبرر نفسها بنفسها، ما دام أن الهدف منها هو الحفاظ على الدولة، وعلى التراب الوطني موحداً.
هذه الأفكار سقطت سقوطاً موضوعياً، ليس سقوطاً سببه المؤامرات الأجنبية، لكنه سقوط سببه أن الخبرات العملية التي خبرتها الشعوب هي العكس تماماً، هي أن الديكتاتورية تدمر الدولة الواحدة، وتدمر الشعب الواحد، وتمزق التراب الوطني.
الديكتاتورية تكسب بغضاء الشعب من الداخل، هذه البغضاء تدمر مناعة البلد ضد التدخل الأجنبي من الخارج.
السؤال الآن: كيف للدولة الوطنية، أن تنال محبة الشعوب في الداخل حتى تصمد أمام مخططات الخارج؟
هذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.