فُجعت مصر بمجموعة كبيرة من الفلسطينيين الذين هربوا من جحيم القصف والدمار منذ أن اندلعت الحرب في غزة في أكتوبر 2023 .. أكثر من 100 ألف فلسطيني وصلوا إلى القاهرة، ليجدوا أنفسهم عالقين في دوامة من المعاناة المفرطة، يبحثون عن أمل ضائع في بلاد لا توفر لهم ملاذًا آمنًا.
تقرير نشرته مجلة “نيو ستايتسمان” البريطانية سلّط الضوء على معاناة هؤلاء النازحين الذين أصبحوا لاجئين على أرض عربية، حيث يواجهون ظروفًا أشد قسوة من التي تركوها وراءهم في غزة.
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، هاجر نحو 150 ألف فلسطيني إلى مصر، وفقًا لتقديرات السلطات الفلسطينية والمصرية.
لكن الأعداد الحقيقية قد تكون أكبر من هذا الرقم بكثير، خاصة أن العديد من النازحين لم يسجلوا أنفسهم لدى السفارة الفلسطينية، خوفًا من التعرض لمشاكل مع السلطات المصرية.
ومع ذلك، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 100 ألف فلسطيني ما زالوا يعيشون في القاهرة الكبرى، حيث ينتشرون في المناطق الشعبية مثل شارع فيصل وإمبابة، في حين يحظى عدد قليل منهم بفرصة للعيش في أحياء سكنية راقية.
الأوضاع في مصر قاسية للغاية بالنسبة للفلسطينيين النازحين. معظمهم يواجهون صعوبات في الحصول على تصاريح إقامة، ولا يسمح لهم بالعمل أو متابعة دراستهم في المدارس الحكومية.
حتى الطلاب الفلسطينيون الذين وصلوا إلى مصر يعانون من صعوبة في الالتحاق بالمدارس الثانوية، حيث يضطر البعض منهم إلى متابعة دراستهم عبر الإنترنت أو في فصول خاصة يشرف عليها مدرسون متطوعون. الحياة هنا ليست أفضل مما كانت عليه في غزة، بل ربما أسوأ.
في الواقع، يعيش الفلسطينيون في مصر بلا هوية حقيقية، وهم مهددون في كل لحظة بأن يتم ترحيلهم. مع عدم قدرة مصر على استقبالهم بشكل دائم، وعدم السماح لهم بالعودة إلى غزة أو الضفة الغربية بسبب الحصار الإسرائيلي، أصبح هؤلاء اللاجئون يتخبطون في دوامة من عدم الاستقرار.
البعض منهم، مثل مخيمر أبو سعدة، أستاذ العلوم السياسية الذي اضطر للهروب من غزة بعد أن دمر الاحتلال الإسرائيلي جامعته وبيته، يعيش في القاهرة مع عائلته دون أفق واضح. أبو سعدة كان يعيش حياة مستقرة نسبياً في غزة، ولكن بعد أن فقد منزله وعمله، وجد نفسه مضطراً للبدء من جديد في مكان لا يشعر فيه بالأمان الكامل.
هناك أيضًا حالات أخرى تكشف عن المأساة المستمرة لهؤلاء الفلسطينيين. توفيق رزق، شاب فلسطيني مغادر من غزة، والذي اضطر لمغادرة القطاع بحثًا عن علاج لشقيقته، يروي قصة مأساوية عن عائلته التي تعرضت للقصف في أكثر من مرة.
يروي رزق كيف فقد زوجته التي كانت حاملًا بتوأم بعد تعرضهما للقصف، وكيف أن معبر رفح قد أغلق أمامه في مايو 2023، ليجد نفسه عالقًا في مصر بعيدًا عن أسرته. ورغم معاناته، فإن حلم العودة إلى غزة أصبح شبه مستحيل بعد تدمير كل شيء في حياته.
وبينما يجد بعض الفلسطينيين النازحين في القاهرة متنفسًا في مجالات العمل المختلفة كالإعلام أو البرمجة أو القطاع المصرفي، فإن الغالبية العظمى منهم لا يعرفون ما الذي ينتظرهم.
هذا النزوح الجماعي لم يقتصر فقط على الفقراء، بل شمل أيضًا أكاديميين ورجال أعمال وأطباء وغيرهم من فئات المجتمع الفلسطيني. في إحدى الروايات، يقول أحد الفلسطينيين: “نحن في القاهرة، ولكننا لا نعيش هنا. نحن مجرد لاجئين عابرين، مشردين بلا وطن، بلا أمل.”
أجهزة الأمن المصرية تراقب عن كثب الفلسطينيين النازحين في القاهرة، مما يجعلهم يشعرون بالخوف والقلق المستمر من حدوث مشاكل مع السلطات. الفلسطينيون في مصر يواجهون واقعًا مؤلمًا، حيث لا يُسمح لهم بممارسة أي نشاط سياسي أو حتى الاعتراض على الوضع الذي يعيشونه.
أي محاولة لتشكيل رأي عام أو تنظيم احتجاجات قد تؤدي بهم إلى السجون المصرية، وهو ما يثنيهم عن اتخاذ أي خطوة نحو المطالبة بحقوقهم. ومع ذلك، لا يزال لدى الفلسطينيين في مصر رغبة قوية في العودة إلى غزة، حيث يوجد أكثر من 2000 شخص عالقين في العريش قرب معبر رفح، ينتظرون الفرصة للعودة إلى وطنهم المدمَّر.
من جانبه، أكد عمر شعبان، مؤسس ومدير مؤسسة “بال ثينك” للدراسات الاستراتيجية، أن الفلسطينيين في مصر يمثلون مجتمع غزة بالكامل.
هناك أكثر من 250 صحفيًا فلسطينيًا في القاهرة، وحوالي 400 شخص يعملون في القطاع المصرفي، وآلاف آخرون يعملون في منظمات دولية، في حين أن هناك أيضًا حوالي 1500 طالب فلسطيني تمكنوا من إتمام دراستهم الثانوية في مصر. كل هؤلاء لا يعرفون مستقبلهم، ولكنهم يعبرون عن رغبتهم المستمرة في العودة إلى غزة.
أحلام العودة ليست مجرد كلمات، بل هي حقيقة يعيشها الفلسطينيون في كل زاوية من القاهرة. هناك العديد من القصص التي تظهر التضحية والدماء التي سُفكت من أجل هذه العودة.
في غمرة الألم والدمار الذي يعيشه الفلسطينيون في القاهرة، تظل كلمات “العودة” تدوي في أذهانهم كالصوت الوحيد الذي يمنحهم الأمل. لكن الواقع الذي يعيشونه يكشف أن العودة قد تكون حلماً بعيدًا، وأن وضعهم في مصر قد يطول إلى ما لا نهاية.
التقرير يشير إلى أن الفلسطينيين في مصر يواجهون مصيرًا لا يختلف كثيرًا عن مصيرهم في غزة، حيث التهديدات والآلام تلاحقهم أينما ذهبوا. هذه الحرب لم تُنهي فقط حياة الكثيرين منهم في غزة، بل أخرجتهم من وطنهم إلى مكان آخر لا يمنحهم فرصة للعيش بكرامة.
ويظل الفلسطينيون في مصر في حالة من التيه، لا يعرفون إلى أين يسيرون ولا متى ستنتهي معاناتهم. القاهرة قد تكون ملاذًا مؤقتًا، ولكن الأمل في العودة إلى غزة لا يزال هو الحلم الذي يعيشونه رغم كل الصعوبات.