مع كل يوم يمر، تتضح الصورة القاتمة للسياسات الحكومية التي تسحق المواطن الفقير تحت وطأة الأزمات الاقتصادية المتفاقمة. الحكومة المصرية لم تكتفِ بتقليص الدعم الموجه للشرائح الأكثر احتياجاً،
بل عملت وبإصرار على تحطيم كل ما يتعلق بمنظومة الحماية الاجتماعية، متخذة من الخطاب الإعلامي المضلل وسيلة لتغليف هذا الإهمال والفساد بعبارات جوفاء عن الإصلاح المالي.
الخبز، الذي يعتبر العنصر الغذائي الأساسي لقطاع كبير من المصريين، لم يسلم من تلاعب النظام. في حين كان من المفترض أن يكون الدعم السلعي ركيزة لحماية الفقراء من المجاعة، عملت الحكومة على تقليص هذا الدعم تدريجياً تحت ذريعة أن الموازنة لا تحتمل هذه الأعباء.
ومع ذلك، كل هذا يحدث بينما تستمر الفوائد وأقساط الديون في التهام الجزء الأكبر من الموازنة العامة، مما يفضح أولويات النظام الذي يضع خدمة الديون في المقام الأول، غير مبالٍ بالجوع الذي ينهش بطون المصريين.
تتكرر على لسان المسؤولين الرواية الكاذبة التي تدعي أن الدعم يشكل عبئاً كبيراً على الميزانية، وأن مخصصاته لا مثيل لها في تاريخ البلاد. لكن هذه الأكاذيب تنهار أمام الحقائق الاقتصادية الصارخة التي تكشف أن المواطن لم يعد يشعر بأي تحسن حقيقي في قدرته على توفير احتياجاته الأساسية. فما يروج له النظام ليس إلا وهمًا يخفي وراءه الفشل في إدارة اقتصاد البلد، والتلاعب بأرقام الموازنة العامة لتبرير سلب حقوق الشعب.
ما يزيد من تفاقم هذا الوضع هو إغفال وسائل الإعلام المحلية الموالية للنظام التحديات الحقيقية التي يواجهها المواطن البسيط. هذه الوسائل تساهم في تزييف الحقائق عبر التركيز على حجم مخصصات الدعم كأرقام مجردة، متجاهلةً تماماً التضخم الذي يلتهم دخل المواطن، وتدهور سعر الجنيه المصري، مما يجعل هذه الأرقام بلا قيمة فعلية على الأرض. الدعم الذي كان يُفترض أن يكون طوق نجاة، أصبح أداة يستخدمها النظام لابتزاز الفقراء وتضليل الرأي العام.
في الواقع، ما يحدث هو أن الحكومة تسعى منذ سنوات إلى تقليص الدعم تحت غطاء الإصلاح المالي، في وقت تتفاقم فيه المديونية بشكل غير مسبوق. بلغت خدمة الدين العام في موازنة 2024/2025 وحدها 3.44 تريليونات جنيه، ما يعادل 62.1% من إجمالي المصروفات العامة. هذه الأرقام تفضح الحقيقة المرّة: دعم الفقراء لم يعد أولوية، بل إن الدين وفوائده أصبحا الشاغل الأكبر للحكومة، بينما يُترك المواطن ليصارع مصيره في ظل اقتصاد يتدهور بسرعة مخيفة.
الفساد المستشري في كافة أركان الدولة يزيد الوضع تعقيداً. الأموال المخصصة للدعم، التي يُفترض أن تصل إلى الفقراء، غالباً ما يتم التلاعب بها لتصب في جيوب الفاسدين. يشمل هذا التلاعب عمليات توزيع السلع المدعومة بأسعار أعلى من تلك المفترض بها، والعبث بمخصصات الخبز، في حين يُترك المواطن دون أي حماية حقيقية. هذه الفوضى ليست نتيجة صدفة، بل هي جزء من نظام اقتصادي متعفن يخدم الطبقة الحاكمة وأصحاب المصالح، على حساب ملايين المصريين الذين يعانون كل يوم من ارتفاع الأسعار وتدهور مستوى معيشتهم.
مع ذلك، يبدو أن الحكومة تعيش في وهم، أو على الأقل تريد أن تفرض هذا الوهم على الشعب. تحاول الحكومة إقناع المواطنين بأن تقليص الدعم ورفع الأسعار هو الحل الوحيد لإنقاذ الاقتصاد، بينما الحقيقة أن هذه السياسات لا تؤدي إلا إلى زيادة معاناة الفقراء وإفقار المزيد من المواطنين. الدعم الذي كان يُفترض أن يخفف من وطأة الأزمات أصبح مجرد أداة في يد النظام لتضليل الرأي العام، بينما الواقع يقول إن الفقر ينتشر بشكل مرعب.
أين الحكومة من كل هذا؟ الإجابة الواضحة هي: في غيبوبة تامة. المسؤولون يتعاملون مع الأرقام كما لو أنها مجرد لعبة، يزيفون الحقائق ويقدمون خططاً فارغة لا تهدف إلا لتمديد أمد الأزمة بدلاً من حلها. الفقراء الذين كانوا يعتمدون على الدعم لم يعد بإمكانهم تحمل الأسعار الباهظة للسلع الأساسية، في وقت يتم فيه تخصيص المليارات لسداد الديون والفوائد.
الأمر لا يتوقف عند الفشل الاقتصادي فقط، بل يتعداه إلى تقاعس متعمد عن محاربة الفساد. الفساد في المؤسسات الحكومية مستفحل، والجميع يعرفون ذلك، إلا أن الحكومة تتجاهل القضية بشكل مريب. هذا الفساد، الذي يسري في كافة المؤسسات، يؤدي إلى سرقة أموال الدعم وتحويلها إلى جيوب المنتفعين والفاسدين، مما يجعل الفقراء هم الضحية الكبرى في هذا السيناريو الكارثي.
النظام المصري لا يسعى لحماية الفقراء، بل يعمل على سحقهم بكل الوسائل الممكنة. ومنظومة الدعم الحالية، بدلاً من أن تكون درعاً لهم، أصبحت وسيلة للإمعان في إذلالهم. تقليص الدعم ليس إصلاحاً اقتصادياً، بل هو تحايل على حقوق المواطنين، وإمعان في خدمة مصالح قلة على حساب الأغلبية.
الحكومة ليست عاجزة عن تقديم الدعم، بل هي متعمدة في ترك الفقراء يغرقون في وحل الفقر والعوز، بينما تنشغل بتلميع صورتها أمام المؤسسات المالية الدولية التي لا تهتم إلا بمدى قدرة الحكومة على سداد ديونها.
النتيجة النهائية لهذه السياسات هي واضحة: المواطن البسيط يسحق كل يوم تحت وطأة الفقر، في ظل حكومة تتفنن في تحايلها على حقوقه الأساسية.