مقالات ورأى

يوسف عبداللطيف يكتب: فساد الثقافة في مصر .. صمت القبور يقتل الإبداع

في هذا المقال، سأطرح رأيي الشخصي بكل صراحة، بدون أي مساحيق تجميلية أو تلميع للكلمات .. لأننا في هذا العالم الذي يزعم فيه البعض أنهم حماة الحق والعدل، تُسَلب الحقيقة على مذبح المصالح الشخصية واللعب في مستنقعات الفساد.

في بلد يُفترض أن يكون حاضنًا للثقافة، تُحَاك الخيوط خلف الجدران بمهارة لا مثيل لها، فيكاد الإنسان لا يميز بين من يدّعي النقاء ومن يغرق في وحل الألاعيب.

كيف يمكن لعقل حر أن يصدق أن الأمور تسير على ما يرام في مؤسساتنا الثقافية، في الوقت الذي يتفشى فيه الفساد المالي والإداري دون أن يتحرك ساكن؟ كيف يمكن أن نعتبر ما يحدث مجرد صدفة؟

المجتمع الثقافي في مصر، وتحديدًا الهيئة العامة لقصور الثقافة، يعاني من أزمة حقيقية لا تتعلق فقط بالفساد المالي والإداري، بل تتجاوز ذلك لتصل إلى مسألة القيم والمبادئ التي ينبغي أن تسير عليها أي مؤسسة ثقافية تحترم نفسها.

ما قرأته على موقع “أخبار الغد” من فضائح مخفية وراء الوجوه المبتسمة كان بمثابة صدمة كشفت لي واقعًا مريرًا لا يمكن تجاهله.
إذا كانت الثقافة هي واجهتنا الحضارية، فكيف لنا أن نثق في هذا الوجه المشوه؟ كما قرأ ملايين آخرون على موقع “أخبار الغد“، حيث تكشفت تقارير فضحت الفساد المالي والإداري في الهيئة العامة لقصور الثقافة وفروعها في الأقاليم، وأحيانًا وصلت إلى الفساد الأخلاقي، كما وصفتها التقارير بـ “مستنقع الرزيلة“.

فقد أصابني الحزن العميق لأنني أعتبر نفسي من أبناء هذا الصرح الثقافي، فقد نشأت في أروقته وكنت أحد رواده منذ نعومة أظافري وعرفت موظفيه، وارتبطت بعلاقات صداقة مع بعض قياداته الذين رحلوا.

إنه ليس أكثر من دمى تُحركها خيوط الفساد والخداع، فحتى في الصمت الرهيب الذي ساد في أروقة الهيئة العامة لقصور الثقافة، يبقى السؤال عالقًا في الهواء: هل فعلاً لا يوجد أحد يجرؤ على تحريك ساكن أو رفع صوته في وجه المفسدين؟

هل نحن جميعًا عبيد لهذه الأنظمة المتسلطة التي تشتري صمتنا وتبيع لنا الأوهام؟ إذا كانت هذه هي ثقافتنا، فأين نذهب؟ أين نجد الأمل في غد أفضل؟ إذا كانت الهيئة نفسها، المسؤول الأول عن هذه الأوضاع، تختار أن تنأى بنفسها عن المواجهة، فماذا يبقى للمواطن البسيط سوى الاستسلام للأقدار المظلمة التي تترصدنا؟

ثم يُقال لنا إننا نعيش في زمن يسيطر فيه المنطق. أي منطق هذا الذي يتحدثون عنه؟ المنطق الذي يرضخ فيه الجميع للمساومات ويغض الطرف عن الأفعال المشبوهة؟ لا، هذا ليس منطقًا، بل هو خنوع وانبطاح أمام سيل من الأكاذيب التي ألبست نفسها لباس الحكمة.

كيف يمكن أن نتجاهل الحقائق التي تنبع من داخلنا ونصر على تبني الباطل الذي يقدم لنا على أنه الحل الوحيد؟ هؤلاء الذين يعيثون فسادًا في مؤسساتنا، من هم؟ هم نفسهم الذين يجلسون على المقاعد الوثيرة، ويأخذون رواتب ضخمة، في حين يظلون يتظاهرون بالتحضر، ويهيمون في عالم الألقاب والوظائف التي لا تعني سوى أنانية لا حد لها.

ومن هنا، قررت أن أتعمق في البحث عن السبب وراء هذا الصمت المريب، علني أتمكن من فهم حقيقة الأمور. وما اكتشفته كان كارثيًا أكثر مما كنت أتوقع.

ليتني لم أبحث، ففي غمار تلك الرحلة المظلمة من البحث، فوجئت بأن أحد الشعراء المغمورين، الذي لا يعرفه أحد سوى نفسه وأسرته – إن كانوا يعرفونه أصلًا – وشهرته “شاعر البهائم”، هذا الذي يظن نفسه أديبًا، فما هو إلا مهرج آخر في هذه المسرحية الهزلية التي يقف على خشبتها الجميع، ويغرقون في وهم البطولة.

إذا كان يظن أن قلمه سيخترق جدران الحقيقة، فهو واهم، لأن الحقيقة لا تُكتب إلا بحبر الشرفاء الذين لا يخشون قول ما يعتقدونه، مهما كانت العواقب. لكن عندما يرتكز القلم على أفكار تافهة ومصالح ضيقة، فإنه لا ينتج سوى نهيق يحاكي في ضجيجه أصوات الحمير.

أما أن يُطلق عليه “شاعر”، فهذا يزدري كل من حمل قلمه ليكتب من أجل بناء العقول لا إفسادها وإنه لمن السخرية ألا نصدق بأن هذا “الشاعر” قد رضع من “الحمير”، فهذا قد يكون التفسير الوحيد الذي يمكنه أن يشرح لنا كيف يمكن أن يكون هذا المخلوق قد وصل إلى هذه المرتبة من “الشهرة” التي لا تُذكر سوى في خيالاته المريضة.

وفيما يتعلق بقضية ضياء مكاوي مع إحدي زميلاته، فإنها تمثل سيناريو مأساويًا يكشف عن حقيقة مرعبة! الرجل الذي كان يظن نفسه عملاقًا في الثقافة، تحول إلى شخص يستخدم منصبه لتصفية حسابات شخصية ضيقة.

بدلًا من أن يكون قدوة لزملائه، قام بتحويلهم إلى أعداء عبر تقديم شكاوى لا أساس لها من الصحة، ولم تكن إلا لأسباب مهنية أو إدارية، بالرغم أنه كانت تربطني علاقة صداقة مع ضياء مكاوي منذ أن كان مديرًا لقصر ثقافة أسيوط، ولطالما عرفت تقربه من أصحاب السلطة.

ولكنني صُدمت عندما اكتشفت أنه، بعد كل هذه السنوات، أصبح يشهر سلاح الشكاوى ضد من يفترض أنهم زملاءه، ويقحمهم في صراعاته الشخصية.

إلى أين سنصل إذا استمر هذا الوضع؟ هل سنظل نعيش في عالم يُكرّس فيه الفساد تحت شعارات فارغة؟ عندما يصبح من العادي أن يتسلل التهم من هنا وهناك بلا أدلة، فكيف نثق في أي أحد بعد ذلك؟ هل ستكون المحاكم هي ملاذنا الأخير؟

هل يعقل أن يتجاسر أحدهم في المجتمع الصعيدي أن يرفع يده ضد سيدة في موقف لم يكن يحق له فيه التدخل؟ فما بالك عندما يكون ذلك في مؤسسة ثقافية يفترض أن تكون منبعًا للحكمة والرقي؟ هذا هو النموذج الذي يُحتذى به في ثقافتنا اليوم؟

ورغم أنني لا أعرف السيدة التي قُدِّم ضدها شكوى في المحكمة الاقتصادية، إلا أنني شعرت بعمق في صدري ومرارة شديدة لما مرت به .. لأننا في مجتمع صعيدي حيث الكرامة والعزة هما أساس القيم التي نحترمها، وما حدث كان إهانة في حقها .. كان من المفترض أن تُحَل المسألة بطريقة أخرى أكثر احترامًا.

وبعد البحث عن تفاصيل القضية، اكتشفت أن السيدة هي الدكتورة عتاب عادل، الحاصلة على درجة الدكتوراه في اللغة العربية – الأدب والنقد -، والتي تم إبعادها من منصبها كمدير لقصر ثقافة الكوثر التابع لفرع ثقافة سوهاج دون أي مبررات فنية أو مهنية واضحة، وهو تصرف يثير الدهشة والاستفهام.

إننا لا نعيش في عالم من الخيال أو السخرية، بل في مجتمع ذي تقاليد راسخة وقيم نبيلة. وعندما يتم تقديم شكوى ضد سيدة بهذه الطريقة، يُطرح السؤال: ما الذي يدفع شخصًا في موقعه إلى اتخاذ مثل هذه الخطوات القاسية؟ وما هو الهدف وراء ذلك؟ وهل من المناسب أن يتخذ المسؤولون قرارات تُخل بموازين العدالة والإنسانية بهذه السهولة؟

لا يمكنني أن أقبل بكل هذا العبث الذي يتعرض له مجتمعنا الثقافي. إننا في حاجة ماسة إلى إصلاح حقيقي في هذه المؤسسات الثقافية، إلى إعادة النظر في طريقة إدارة الأمور، إلى محاسبة المسؤولين والقيادات التي لا تؤدي واجبها على أكمل وجه.

لا أقول هذا من منطلق الانتقاد لأجل الانتقاد، بل من منطلق الإيمان بأن الثقافة هي سلاحنا، وأنها هي التي تُشكّل هوية المجتمع وتُعزز من قيمه. لكن إذا استمر هذا الوضع على ما هو عليه، فإننا سنفقد هذه الهوية، وسنُقتل بإهمالنا وتخاذلنا.

الهيئة العامة لقصور الثقافة يجب أن تكون أول من يسعى لإصلاح نفسها، وأن تكون نموذجًا يحتذى به في النزاهة والشفافية. يجب أن نتوقف عن العبث بمقدرات الثقافة، وأن نرفع شعار الحق والعدالة. لا يمكن أن تستمر هذه المهزلة، ويجب أن يتوقف تدهور هذا الصرح العظيم.

إن هذه الحكايات ليست مجرد تفاصيل، بل هي صورة معبرة عن واقعنا الذي نعيش فيه. واقع يبتعد أكثر فأكثر عن قيم الشرف والكرامة والعدالة.

ومن حقنا أن نسأل: هل نحن حقًا في طريق نحو المستقبل؟ أم أننا عالقون في مستنقع من الأكاذيب والفساد؟ الحقيقة مؤلمة، ولكنها ما زالت الحقيقة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى