تستمر فضيحة شركة جنوب القاهرة لتوزيع الكهرباء في إثارة القلق، حيث أصبحت أزمة الفقد الكهربائي لغزاً معقداً لا يجد له تفسيراً منطقياً.
فما يحدث داخل هذه الشركة التابعة للشركة القابضة لكهرباء مصر يكشف عن مستوى غير مسبوق من الإهمال والفساد المستشري في كافة مفاصل هذا القطاع الحيوي، والذي يعاني من تقاعس خطير من جانب المسؤولين في الشركة وفي وزارة الكهرباء بشكل عام.
وفي تقرير الأداء الصادر عن الشركة لشهر يوليو 2024، تبين أن نسبة الفقد الكهربائي وصلت إلى 43.29%، وهي نسبة ضخمة تتسبب في خسائر مالية ضخمة تصب في صالح فساد النظام الإداري داخل الشركة.
ورغم أن هذه النسبة تعكس خسائر مالية ضخمة، إلا أن الأرقام تظل غير مفهومة في تفسيرها على ضوء محاولات متعددة من قبل المسؤولين لتغطية أسباب هذا الارتفاع المستمر.
وبينما تطرح بعض التفسيرات أسباباً غير واقعية أو متحيزة، يبقى السبب الحقيقي للتراكمات هذه هو الفساد الإداري الذي يتغاضى عن محاسبة المسؤولين عن هذه الأزمات.
يبدو أن هناك رغبة من المسؤولين في تجنب الجهود الحقيقية لمعالجة هذه الأزمة، وهو ما يعكس تقاعساً غير مبرر من جانب الحكومة المصرية، خاصة في وزارة الكهرباء والشركة القابضة للكهرباء.
ومع كل ارتفاع في نسبة الفقد الكهربائي، تتكشف حقائق مثيرة حول كيفية إدارة هذه المناطق الحيوية داخل شركة جنوب القاهرة لتوزيع الكهرباء، حيث تمثل مناطق مثل “عش الدبابير” نقطة تركيز أساسية لما يطلق عليه العاملون “بيع المناطق”. وهذا المصطلح يبدو غريباً للمواطنين، لكنه معروف جيداً بين موظفي القطاع.
وهو يعني أن المناطق المختلفة التي تحتوي على منشآت أو مناطق حيوية يتم التلاعب في إدارة تحصيلاتها وتوزيع المهام بين المحصلين والفنيين بشكل متحيز ولأغراض شخصية.
منطقة الزرايب تعتبر هذه المنطقة بمثابة منجم ذهب للشركة. شهرياً، يتم تحصيل أكثر من 3 مليون جنيه من هذه المنطقة، ورغم ذلك لا يتم تحصيل المديونيات المستحقة بانتظام.
يتم التعامل مع هذه المديونيات بطريقة غير قانونية من خلال التأجيل المتعمد أو إخفائها داخل النظام، ما يزيد من نسبة الفقد ولا يتم تحصيلها بشكل يضمن الاستفادة الفعلية للدولة والشركة.
منطقة أبو رواش هذه المنطقة تضم عدداً كبيراً من المصانع الحيوية، ومع ذلك يتم التعامل مع المديونيات المستحقة بطريقة غير شفافة.
ولا يتم تحصيل قيمة الاستهلاك بشكل دقيق، مما يساهم في زيادة الخسائر المترتبة على هذا القطاع. ورغم أن هذه المنطقة تعد من أكثر المناطق إنتاجاً للعوائد، إلا أن الممارسات الفاسدة تتكرر فيها مما يعزز من مشهد الإهمال في الإدارة.
منطقة شق التعبان تتسم هذه المنطقة بالتلاعبات المستمرة، حيث يتم تغيير المسؤولين في كل مرة بناءً على تعليمات خاصة بالتحكم في عمليات التحصيل.
كما أن هناك شبهة فساد كبيرة في كيفية حساب المديونيات في هذه المنطقة، خاصة مع وجود تسويات غير قانونية على حساب المال العام.
منطقة عرب أبو ساعد هذه المنطقة، التي تبعد عن الرقابة الرسمية، تعتبر من أكبر مناطق الفساد داخل قطاع توزيع الكهرباء، حيث يتم التعامل مع المديونيات والديون المتراكمة بطريقة تعزز من الوضع الفاسد.
وبرغم أنها منطقة حيوية على مستوى الكهرباء، إلا أن هناك العديد من المحاولات للتهرب من دفع المستحقات المقررة.
مزارع المنصورية هذه المنطقة تشهد تراكم مديونيات ضخمة لم يتم تحصيلها بشكل كافٍ، ما يؤدي إلى تزايد الفقد داخل الشبكة الكهربائية.
والأرقام الخاصة بهذه المديونيات تؤكد وجود تقاعس شديد من المسؤولين عن تحصيل الحقوق، بل وتجاوزات من قبل موظفي الشركة القابضة للكهرباء.
كل هذه المناطق، التي تمثل جزءاً من شبكة جنوب القاهرة لتوزيع الكهرباء، تتوالى عليها مجموعة من المحصلين والفنيين الذين يتم تنقيلهم بين الحين والآخر بناء على تعليمات مباشرة من رؤسائهم.
هذه التبديلات المتكررة تأتي كجزء من استراتيجية غير قانونية تهدف إلى تحقيق مكاسب شخصية على حساب مصلحة الشركة والدولة.
يتم التوزيع بين المحصلين بطريقة غير مهنية، حيث يقوم المحصل باختيار المنطقة التي يريد العمل بها، ويُبلغ رئيسه الذي لا يرفض هذه الاختيارات بشكل عام. هذا التلاعب في توزيع المسؤوليات لا يهدف إلا لتحقيق مصلحة فردية على حساب مصلحة العامة.
الفوضى التي تحدث داخل هذه المناطق تظهر بشكل أكبر عندما يتم التعامل مع المديونيات الكبيرة. ففي بعض الحالات، يتم تأجيل دفع المستحقات لفترات تتراوح ما بين 3 إلى 4 شهور، مما يعقد مشكلة الفقد أكثر ويؤدي إلى تراكم الديون بشكل كبير.
وعندما يتم الوصول إلى مرحلة قطع التيار، يتم دفع جزء من المديونية لكي لا يتم قطع التيار الكهربائي، بينما يتم ترحيل باقي المديونية إلى الأشهر التالية. وفي أحيان كثيرة، يتم تعديل السجلات الكمبيوترية داخل النظام لتجنب الكشف عن هذه الممارسات.
أما فيما يخص لجنة الضبطية القضائية، فقد أظهرت التقارير أن هناك خللاً كبيراً في تشكيل هذه اللجنة. ففي بعض الحالات، يتم عدم تسجيل أسماء بعض الأعضاء في التقارير الرسمية رغم أنهم يتقاضون مكافآت مالية دون وجه حق.
كما أن هناك محاولات للتلاعب بالتحقيقات المتعلقة بأحمال المناطق، إذ يتم أحياناً حساب أحمال أقل من الواقع لكي يتم تقليص الفواتير المستحقة، ما يعزز من حالة الفساد المستشري في هذه اللجنة.
هذا التلاعب في التقارير والحسابات داخل الشركة القابضة للكهرباء يعكس مستوى عالياً من الفساد ويكشف عن تقاعس كبير من الحكومة في معالجة هذه الأزمة.
فالمسؤولون في وزارة الكهرباء والشركة القابضة للكهرباء لا يبدو أنهم قادرون على محاربة الفساد المستشري داخل القطاع، بل على العكس، يعملون على حماية المتورطين في هذه الممارسات المدمرة.
إن التقاعس الحكومي يعكس مستوى غير مقبول من الفساد الإداري الذي يعطل من تطور القطاع ويؤثر سلباً على خدمة الكهرباء المقدمة للمواطنين.
تستمر بعض الجهات الرقابية، مثل الهيئة الرقابية الإدارية، في رصد المخالفات، لكن الفساد يظل يتفشى تحت سمع وبصر الجميع.
وفي الوقت الذي يسكت فيه المسؤولون عن هذه الممارسات، يتم استغلال الفساد لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المال العام، حيث يتم تقديم هدايا وعزائم لرؤساء الأقسام والمديرين، في محاولة لاستمرار هذه الألاعيب على حساب حقوق المواطنين.
الواقع الذي نعيشه اليوم داخل شركات الكهرباء في القاهرة والمحافظات الأخرى يعكس واقعاً مزرياً يحتاج إلى تدخل حاسم من الحكومة وأجهزة الدولة الرقابية.
لا بد من محاسبة المسؤولين عن هذه الأزمات وعدم السماح بتكرار مثل هذه الممارسات الفاسدة التي تضر بالمال العام وتؤثر على جودة الخدمة المقدمة للمواطنين.
من الواضح أن هناك العديد من الفجوات في نظام الرقابة داخل هذه الشركات، مما يسهل على المسؤولين ارتكاب مثل هذه التجاوزات.
لكن إذا كانت هناك إرادة حقيقية من جانب الحكومة المصرية، فإن إصلاح هذا القطاع يبدأ من محاسبة كل من يثبت تورطه في هذه الأفعال الفاسدة.