إن الوضع الكارثي الذي تعاني منه الشركة القابضة لكهرباء مصر، والذي يمتد تأثيره ليشمل وزارة الكهرباء والحكومة المصرية بأكملها، ليس مجرد حدث عابر.
هذا هو نتاج تراكمات من الفساد والتقاعس المستمر، مما أدى إلى تفشي مخالفات ضخمة، وإهدار مبالغ طائلة من المال العام، وعجز الحكومة عن فرض أي رقابة حقيقية على القطاع الكهربائي.
فقد أعلن المهندس جابر دسوقي، رئيس الشركة القابضة لكهرباء مصر، بجرأة تُثير الغضب، أن إجمالي محاضر سرقة التيار التي وقعتها شرطة الكهرباء خلال العام الحالي بلغ مليون و123 ألف محضر سرقة.
هذه التصريحات لم تكن سوى محاولة لتبرير التلاعب الذي يتم من خلال محاضر السرقات المفتعلة التي تُفرض على المواطنين البسطاء المتقدمين لتركيب العدادات الجديدة.
وفي واقع الأمر، يتجاوز الأمر مجرد سرقة التيار. فوفقًا لتقرير صادر من الشركة القابضة لكهرباء مصر، بلغ إجمالي المبالغ التي تم تحصيلها من مخالفات الكهرباء نحو 802 مليون جنيه خلال الأشهر الستة الأخيرة من عام 2024. وفيما يبدو أن الشركة تحاول تضخيم تلك الأرقام لتبرير التجاوزات المالية الضخمة التي تمارسها، فإن عدد المحاضر يتساوى مع عدد طلبات المواطنين لتقديم عدادات جديدة، مما يشير بوضوح إلى أن شركة الكهرباء تتعمد استغلال المواطنين بإلزامهم بتحرير محاضر سرقة تيار وتحصيل رسوم عن كل عقار.
في ظل هذا الوضع المتفاقم، يضطر المواطنون في المدن والمناطق الشعبية إلى قبول هذا الاستغلال. لا يقتصر الأمر على فرض رسوم غير مبررة فقط، بل يصل إلى حد إلزامهم بالتعامل مع موظفي الشرطة داخل شبكة الكهرباء لتحرير محضر سرقة تيار كجزء من أوراق التقدم لتركيب العداد. هذا النظام الفاسد يضع المواطنين في موقف لا يحسدون عليه، حيث يجدون أنفسهم مضطرين لدفع غرامات باهظة مقابل الحصول على خدمة أساسية.
وخلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2024، بلغت عدد العقارات المتضررة من هذه الإجراءات الجائرة مليوني و130 ألف عقار. وعلى الرغم من الاعتراضات المتكررة من المواطنين، إلا أن المسؤولين في الشركة القابضة لكهرباء مصر بقيادة جابر دسوقي يواصلون تنفيذ سياساتهم الجائرة بدون أي اعتبار لشكاوى المواطنين أو للأضرار الاقتصادية والاجتماعية التي يتسببون بها.
وحتى في أفضل الحالات، فإن عملية تركيب العداد الجديد تستغرق عدة شهور، مما يدفع الكثير من المواطنين إلى اللجوء إلى سرقة الكهرباء لتلبية احتياجاتهم. وهذه ليست مجرد سرقات عشوائية، بل هي نتيجة طبيعية لنظام يتعمد إجبار المواطنين على مخالفة القانون، وذلك من خلال فرض إجراءات بيروقراطية تعجيزية واستغلال المواطنين البسطاء.
ومن بين تلك الإجراءات هو التعامل مع لجان التظلمات. فتلك اللجان التي يُفترض بها أن تضمن العدالة للمواطنين أصبحت جزءًا من المشكلة. فهي لا تقوم بدورها على الوجه الأكمل، بل تتلاعب بالمحاضر وتعلقها دون اتخاذ أي قرارات نهائية بشأنها. فقد كشفت تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات عن وجود محاضر معطلة في لجان التظلمات بالشركة، تصل قيمتها إلى 34 مليون جنيه. تلك المحاضر لم يتم البت فيها، وبالتالي لم يتم تحصيل الغرامات المفروضة على المخالفين، مما تسبب في إهدار المزيد من المال العام.
وهنا يطرح السؤال الجوهري: لصالح من يتم تعليق هذه المحاضر؟ ومن يستفيد من هذه الأوضاع الفاسدة التي تسمح بتراكم المخالفات دون محاسبة؟
الفساد لم يتوقف عند هذا الحد. فقد كشفت تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات عن مخالفات جسيمة في شركة شمال القاهرة لتوزيع الكهرباء، خاصة فيما يتعلق بمديونيات الجهات الحكومية. فقد سجلت أوراق الشركة مديونيات تلك الجهات بمبلغ 4 مليار و547 مليون جنيه تقريبًا، بينما كان المبلغ الفعلي لا يتجاوز 4 مليار و137 مليون جنيه، مما يعني وجود 410 مليون جنيه من المبالغ الوهمية التي تم تضخيمها بشكل غير قانوني.
تضخيم تلك المبالغ لم يكن عشوائيًا، بل جاء كجزء من مخطط لتغطية ارتفاع معدلات الفقد في الشركة، والتي تجاوزت نسبة 40%. تلك النسبة الحقيقية تختلف تمامًا عما سبق وأعلنته الشركة، حيث ادعت سابقًا أن معدل الفقد لا يتجاوز 20.4%. هذا التناقض الصارخ يضع قيادات شركة شمال القاهرة لتوزيع الكهرباء في موقف حرج ويكشف عن حجم التلاعب المالي الذي يتم داخل الشركة.
الأمر لم يقف عند شمال القاهرة فقط. بل امتد إلى شركة مصر الوسطى لتوزيع الكهرباء، حيث كشفت تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات عن تجاوزات كبيرة ارتكبتها لجنة التظلمات في تلك الشركة. فقد تم تحميل المواطنين مبالغ مالية أكبر مما يجب أن يدفعوه في الأصل، كما تم إهدار ملايين الجنيهات بسبب عدم تطبيق بند مضاعفة قيمة الغرامة في حال تكرار واقعة السرقة من نفس المشترك. هذه التجاوزات ليست سوى جزء من سلسلة الفساد التي تنخر في جسد الشركة القابضة للكهرباء.
أما من ناحية الفساد المالي المباشر، فقد تم رصد صرف مكافآت بأسماء أشخاص لا يعملون في الضبطية القضائية للشركة. هذا الفساد الصارخ يعكس حجم التلاعب المالي الذي يتم في الخفاء، دون أي رقابة من الجهات المعنية.
وفي ظل كل هذه الفوضى، تواصل شركات التحصيل الإلكتروني استغلال المواطنين بشكل مستمر. فقد فرضت تلك الشركات رسومًا إضافية تتراوح بين 15 إلى 20 جنيهًا على شحن العدادات مسبقة الدفع أو سداد فواتير الاستهلاك، وهو ما أثر على نحو 15.5 مليون عداد مسبق الدفع تم تركيبه حتى الآن. هذه الرسوم الإضافية لا تظهر في إيصال الشحن، مما يثير تساؤلات حول من المستفيد من هذا الاستغلال غير القانوني.
المواطنون تقدموا بشكاوى عديدة إلى وزارة الكهرباء بشأن هذه الرسوم غير المبررة، ولكن الوزارة لم تحرك ساكنًا، ما يشير إلى تواطؤ صريح من قبل الحكومة في هذا الاستغلال. وبذلك، تجد شركات التحصيل الإلكتروني نفسها في موقع يمكنها من استغلال المواطنين بدون أي رقابة أو مساءلة.
وعلى الرغم من كل هذه الشكاوى، فإن وزير الكهرباء لا يزال صامتًا، ولا يبدي أي اهتمام بمعاناة المواطنين أو بحجم الفساد المستشري داخل الشركة القابضة للكهرباء وشركاتها التابعة.
إن الوضع الراهن للكهرباء في مصر لا يمكن السكوت عنه. الفساد منتشر في كل ركن من أركان هذا القطاع، من تضخيم المديونيات إلى تعليق المحاضر وعدم تحصيل الغرامات، مرورًا بفرض رسوم غير قانونية على المواطنين. والأسوأ من ذلك هو التواطؤ الصارخ من المسؤولين في وزارة الكهرباء والحكومة المصرية، الذين يغمضون أعينهم عن هذه التجاوزات الخطيرة ويتركون المواطنين ليواجهوا مصيرهم وحدهم.
إن إهدار المال العام بهذا الشكل الصارخ والتلاعب بمصالح المواطنين لا يمكن أن يستمر بدون محاسبة.