تلهمنا لحظة سقوط نظام الأسد وهروبه وما يصاحبها من آمال عظيمة في التغيير والإصلاح، إلى شحذ كل تفكير وكل منظور أو اتجاه علمي يمكن أن يفيد الجادين والمهتمين بأوطانهم ونهضة بلادهم. أحاول في هذا المقال أن أشير إلى بعض مفاتيح تؤثر في نجاح الحوارات السياسية الوطنية أو تعثرها من منظور خطابي تواصلي، لعله يكون إسهاما بجانب إسهامات مداخل العلوم السياسية والاجتماعية والاتصالية.
لحظات الأمل في سوريا ومن قبلها السودان واليمين وليبيا ومصر وتونس تتعلق بلحظات كبرى نادرة ترافق الثورات والانتفاضات وربما الانقلابات التي تمهد أو تقود انتقالا من نظام إلى نظام، تحمل عادة آمالا كبرى وبشريات ووعودا، وتحمل أيضا تحديات وعقبات ومعها خلافات واختلافات وتناقضات وصراعات، وبغض النظر عن وجود العنف أو العمل المسلح من قبل سلطة أو مجموعات منظمة أو عشوائية فهناك لحظات يحتاج فيها أطراف متنوعون للحوار ربما لأهداف وغايات واحدة أو متعددة أو متنافرة.
الحوار خاصية مميزة للإنسان، تتداخل فيها الأفكار والمشاعر والخبرات والنيات والغايات والمعارف والمعتقدات والمسلمات والافتراضات تداخلا مركبا وأحيانا معقدا، وتتجلى من خلال التواصل اللغوي -وما يصاحبه من إيماءات وإشارات وأصوات وصور ودلالات أخرى غير لغوية- قدرة الإنسان على التواصل والتعبير والتأثير والإقناع، أو التنافس أو الصراع أو بث العداوة والكراهية وغير ذلك.
يمكن لأي حوار إنساني أن يحمل تعاونا أو تواصلا ناجحا بين طرفين، نراه يوميا في المنازل والمقاهي والشوارع ووسائل المواصلات، ينجح التعاون نتيجة لعوامل كثيرة، لكن ضغوطا متعددة يمكن أن تُعرّض التواصل للفشل، فيتعثر حوارٌ أسريّ بسبب عدم قدرة طرف على احتمال ما كان يحتمله سابقا، أو بسبب ضغوط دفعت للغضب والطيش، أو بسبب خبرات سابقة تلقي بظلال من الألم أو المرارة أو الضيق أو القلق وغير ذلك.
التعاون جوهر مهم اعتمده بعض فلاسفة اللغة في عدة نظريات في دراسات الخطاب، وألهم آخرين للحديث عن نظريات أخرى مستفيدة من النظر لجوهر هذا التعاون مثل نظريات الملاءمة أو الصلة لفهم الخطاب وتحليله، أو مبدأ التأدب أو حفظ ماء الوجه وغير ذلك مما لا يتسع له المقام هنا للحديث العلمي الموسع عنه، لكن يعنينا أن نشير إلى عدة مفاتيح مهمة لنا في الفهم وتفيد غير المتخصص:
أولا: يمكن أن نصف مناخ الحوارات السياسية بأنه مناخ تنافسي أو صراعي، وفي اللحظات التاريخية الملتهبة تلتهب الحوارات أكثر وتتأثر بلهيب الآمال والمخاوف.
ثانيا: يمكن لعملية الحوار أن تكون بين سلطة وقوى مجتمعية، أو بين مجموعات سياسية، أي أنها بين أطراف متعددة، وتتأثر هذه الحوارات في اللحظات الانتقالية الملتهبة بالتيارات الفكرية والحزبية والقبلية والعائلية.
ثالثا: هناك خلفيات مختلفة بين فرد وآخر ومجموعات وأخرى، خلفيات تتعلق بالنشأة والتكوين والعادات والثقافة والمعتقدات، وأيضا بمسلمات وافتراضات كامنة، وكذلك انطباعات وخبرات، وأيضا آراء ومعارف مستمدة من ثقات مختلفين بحسب الأفراد والمجموعات والتيارات.
رابعا: غير الخلفيات هناك منطلقات لأي حوار محدد، فحوار المرحلة الانتقالية والانتقال من نظام لآخر، يدخل كل فرد أو طرف فيه من عدة منطلقات مثلا منطلقات تتعلق بأهداف قد تكون محل توافق أو لا، أو منطلقات يسكنها خوف أو أمل أو توقع، أو ثقة أو تردد أو شك إلخ، قد تكون المنطلقات مبنية على أساس ديني أو إيديولوجي أو سياساتي أو ثقافي أو اجتماعي أو مصلحي أو حزبي أو فئوي إلخ، وهي بالطبع مهمة ومؤثرة في شكل التعبير والتواصل، غالبا ما تكون هذا الخلفيات غير واضحة بشكل كامل؛ لكنها مؤثرة في عملية التواصل والحوار بشكل لا يمكن تجاهل تأثره.
خامسا: هناك أهداف محددة ومصالح لكل طرف حين يدخل في حوار محدد، فقد يكون الهدف تجميليا، أو لرفع العتب، أو لبث شعور عام، وقد يكون الهدف رغبة في أن يتوافق الآخرون معي، أو أن أقنع الآخرين بصدق موقفي، وقد يكون الحوار ساحة لاحتدام الجدل والمناظرة من أجل إثبات أي المنطق أصح وأصلح.
سادسا: قد تكون هناك مصالح وأهداف مهمة لكن يصعب التصريح بها، فقد تدخل فئة الحوار من أجل التوافق على نظام ديمقراطي، لكنها تريد تحقيق مصلحة فئوية أو حزبية أو عقدية أو إيديولوجية، وقد تكون حاملة هاجسا طائفيا أو انتقاميا أو خوفا من الحرمان من امتيازات أو حقوق، أو رغبة في تعويض تهميش سابق.
سابعا: لكل طرف في حواره طريقة أو نمط أو استراتيجية في التعبير عن أفكاره وغاياته (وهي في النهاية بنية خطابية يمكن فهمها وتحليلها للمختصين)، بها مقدمات وطريقة معينة في الاستدلال لتصل إلى نتيجة، وتتخلل هذه البنية أنماط ثقافية ومنطقية ودينية واجتماعية ونفسية.
ثامنا: لا حديث بغير سياق، بل بغير سياقات متعددة، فحوارٌ سياسيٌ في سوريا لا يمكنه نسيان خلافات سابقة بين قوى ثورية خلال سنوات مضت، ولا يمكنه أن ينسى ضغوطا مر بها السوريون في الخارج، ولا يمكنه تجاوز معاناة فئات من المجتمع بشكل خاص أو تمييز فئات او طوائف بشكل خاص، كذلك حوار في مصر لا يمكنه أن ينسى مرحلة ما بعد تنحي مبارك وخلال المرحلة الانتقالية أو خلال حكم الرئيس مرسي، ولا يمكنه أن ينسى لحظة الانقلاب على مكتسبات الحرية والدستور وعودة الحكم بالحديد والنار والقتل والسجون والتشويه والصوت الواحد أمام آخر سيكون دائما إرهابيا، وهكذا في كل بلد هناك سياقات حديثة أو قديمة لا يمكن ألا تلقي بظلالها على كل طرف، وكلٌ يحمل استخلاصات أو انطباعات متعددة ومتباينة.
تاسعا: الحوارات الناجحة بين متنافسين ومتصارعين مهارة ليست هينة، فهي تحمل طابع التفاوض حينا، والتفهم حينا، والتنافس حينا، والتعاون حينا آخر، وقد عشنا عقودا من دون تنمية هذه المهارة، وهو ما يحتاج مزيدا من التدريب والدعم والتعاون.
عاشرا: هل الحوار بديل عن أن ينمي كل طرف قدراته، وأن يعمل وفق رؤيته؟ الإجابة قطعا لا. لكننا مع تنمية قدرات أي طرف سياسي ومجتمعي نحتاج للحوار، والحوار الناجح بالتأكيد، لعدة أسباب: أولا لأننا آدميين، أكثر ما يميزنا أن نرقي إلى ما كرّمنا الله به من عقل وحكمة عن سائر المخلوقات، نعم نحتاج للكد والتعب والمكابدة والمقاومة، ونحتاج كذلك للحوار والتواصل وتقليل ما يَغرِس الكراهية والعداوة بين أبناء الوطن الواحد المخلصين المؤمنين بوجوب إصلاح البلاد، ثانيا: لأن التعويل على القوة فقط لإنجاح الحوارات يخلق عجلة من التنافس على القوة، فحين يُغرس بيننا أن القوى هو من يفرض إرادته بالقوة فقط، فلا سبيل إلا التنافس على أدوات القوة حتى يحقق كل طرف ما يريد، وإذا كنا ضعفاء أمام الاستبداد فإن واجبنا أن يقوي بعضنا بعضا، وجزء من هذه التقوية بالحوار الناجح لنستفيد بجهود بعضنا، ولا يستنزف بعضنا بعضا لصالح الاستبداد والفساد والإفساد، ثالثا إننا لن نتمكن من إنهاء الخلافات تماما، لذا فتنمية القدرة على التعامل مع الخلافات هي تنمية لمهارة سنحتاجها كل يوم وفي كل مرحلة خاصة مع البدء في الانتقال إلى عهد جديد، لا يتعلق الأمر بتطبيق الصواب المطلق وتجنب الخطأ المطلق، ولكن بالتوافق على أن نتعلم معا ونغير معا، ويُعطَى كلٌ منا فرصة بحسب ما نتفق عليه من نظام وقواعد.
إذن يمكن تلخيص النظرة المركبة لعملية الحوار أنه عملية تواصل تتم في: ١) مناخ تنافسي صراعي وملتهب أحيانا، ٢) بين أطراف متعددة، ٣) لها خلفيات متعددة متعلقة بالنشأة والتكوين والمعارف والمرجعيات، ٤) يدخل كل طرف عملية الحوار بمنطلقات معينة متعلقة بالحالة والآمال والهواجس، ٥) لكل طرف أهداف ومصالح متنوعة، ٦) قد تكون ظاهرة وواضحة أو غير ظاهرة، ٧) تعبر عن نفسها في الحوار بنمط او استراتيجية في بنية استدلالية معينة، ٨) وتتأثر أو تتداخل مع خبرات وانطباعات من سياقات متعددة قديمة أو حديثة، ٩) هذه العملية مهارة تحتاج للتدريب والتمرس والممارسة -حُرِمْنا منها عقودا-، ١٠) لكننا نحتاج لها بشدة سواء كنا في حالة ضعف أو قوة.
ما الذي يعنيه ذلك؟
يعني أننا جميعا بحاجة إلى أن نفهم أن الحوار ليس كلمة سهلة، وليس حلما جميلا، لكنه أمر مركب ومتداخل، قد نوفّق في التعاون لإنجاحه، وقد نتعثر -حتى وإن كنا حريصين-؛ لأننا لم نتمكن من فهم هذا التركيب والتعقيد ولم نستعد له ولم نتمكن من تجاوز العقبات والتحديات التي قد تنشأ من هذه العوامل المتداخلة. إن كل واحد منا لو فكر قليلا في أي حوار تعرض للفشل في حياته قد يجد الأمر بدأ من كلمة أو تعبير أو لهجة أو وصف أو صرخة أو فكرة، لكن خلف كل ذلك تعقيدات -كما ذكرنا- تتداخل فيها الخلفيات والضغوط والسياقات والبنى المتعددة والاستراتيجيات المتنوعة لعملية الحوار بين الأطراف، خاصة لو كنا في حالة صراع ولحظة ملتهبة.
إذن لو آمنا جميعا بأهمية الحوار وطبيعته المركبة والمعقدة، فإن كل فصيل أو مجموعة عمل -بجانب تنميتها لقدراتها وأدواتها وتأثيرها ورأسمالها المجتمعي والسياسي- بحاجة إلى الاستثمار في وسطاء قادرين على النجاح، وبناء الثقة بين المختلفين وحمل عبء هذه التعقيدات وبناء خبرات وقدرات وأدوات وموارد لإنجاح هذه العملية المعقدة، ليس الأمر مستحيلا، ولا حلما خياليا، لكنه ليس سهلا في اللحظات العادية فما بالنا باللحظات الملتهبة والوطن على صفيح ساخن، ما بالنا بحوار قد يكون عواقب فشله عودة الإفساد والفساد والظلم والسحق والاستبعاد، إن الاستثمار في وسيط نزيه يبني منظومة فاعلة لفهم الأطراف المختلفة والتعقيدات المصالحة لعملية الحوار، ويفهم صعوبة التفاوض والتعاون، وأيضا يسعى لبناء قدرات تستفيد من الخبرات الإنسانية العملية -غير الخيالية- التي تيسر النجاح بما يعود على الجميع بالنفع، ويعود على الوطن بعصر جديد.
إن هناك مداخل متعددة تساعد على فهم عقبات تعثر الحوارات، وما يمكن أن يفشلها ويفجرها، ويمكننا بتطوير الأفهام والممارسات أن نحوّل هذه العقبات إلى فرص للنضج والنهوض ودعم بعضنا بعضا، وإن الذين يعيشون في حالة سكون وهدوء هم أولى بالبدء قبل أن تدهمهم الأحداث والفواجع، فلا يكون لديهم وقت لاستدراك ما كان عليهم إنجازه.