يشهد الجنيه المصري في الآونة الأخيرة تراجعًا ملحوظًا وبشكل مستمر رغم المعطيات التي كان من المفترض أن تساهم في استقراره بل وربما في ارتفاعه، وهو ما يثير تساؤلات مشروعة حول السبب الحقيقي لهذا الانهيار الذي لا يتوقف.
فقد بدأ هذا التراجع الخطير في الوقت الذي كان فيه صندوق النقد الدولي يجري المراجعة الرابعة للبرنامج الذي تم الاتفاق عليه مع الحكومة المصرية،
وهو ما طرح علامات استفهام حول توقيت هذا الانخفاض الذي جاء عقب تلك المراجعة، مما جعل البعض يشكك في النوايا خلف هذا التوقيت، ويعتبرونه مجرد جزء من سلسلة قرارات غير مدروسة ومتخبطة تم اتخاذها من قبل الحكومة المصرية.
أيام قليلة من الهدوء النسبي والاستقرار مرت على السوق المصري بعد تلك المراجعة، ولكن سرعان ما عاد الدولار الأمريكي ليعكس مساره ويعاود الصعود مجددًا ضد الجنيه، ليتجاوز لأول مرة في التاريخ مستوى 50 جنيهًا للدولار الواحد، وهو ما يضع النظام المالي في مصر في مواجهة حقيقة مريرة تتمثل في غياب الاستراتيجيات المدروسة للتعامل مع الأزمات الاقتصادية. في الوقت ذاته، سجّل سعر صرف الدولار في البنك المركزي المصري نحو 49.77 جنيهًا للشراء، مقابل 49.91 جنيهًا للبيع، بينما ظل سعر الصرف في البنوك الكبرى مثل البنك الأهلي المصري وبنك مصر ثابتًا عند مستوى 49.91 جنيهًا للشراء و50.01 جنيهًا للبيع، مما يعكس الفوضى التي تعيشها الأسواق المالية في البلاد.
تؤكد المصادر المقربة من الحكومة المصرية أن هناك تفسيرات عدة تقدمها الحكومة لتبرير هذا الانخفاض المستمر للجنيه، إلا أن هذه التفسيرات لا تخرج عن دائرة الخداع والمراوغة التي تعودنا عليها من قبل النظام الحاكم، والذي لا يفعل شيئًا سوى تفاقم الأزمات الاقتصادية بدلاً من معالجتها. التفسير الأول الذي ذكرته الحكومة لتفسير هذا التراجع يتحدث عن جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، إذ ترى الحكومة أن انخفاض الجنيه يشجع المستثمرين الأجانب على ضخ أموالهم في السوق المصري، سواء في قطاع السياحة أو العقارات، بل ويروجون لفكرة طرح مشروعات جديدة ذات طابع سياحي وعقاري، وهو ما يشمل استثمارات ضخمة مثل تلك التي وعدت بها الحكومة من قطر في الساحل الشمالي ومناطق أخرى. هذه التصريحات لا تحمل إلا وعودًا فارغة في وقت تشهد فيه البلاد تراجعًا غير مسبوق في قيمة العملة الوطنية.
إلى جانب ذلك، يشير المسؤولون إلى سياسة مرونة سعر الصرف التي يتم تنفيذها بنسبة 5% صعودًا وهبوطًا، وهي السياسة التي وصفها رئيس الوزراء بأنها تساهم في تحقيق التوازن بين جذب الاستثمارات الأجنبية من جهة، واستقرار السوق من جهة أخرى. لكن هذه التبريرات تأتي في وقت يتهاوى فيه الجنيه بشكل غير مسبوق ولا يوجد أي مؤشر على أن هذه السياسة سيكون لها تأثير إيجابي على استقرار الاقتصاد الوطني، حيث تبقى العملة المصرية في حالة هبوط مستمر مع انعدام أي حلول ملموسة من قبل الحكومة.
التفسير الثاني الذي يقدمه النظام لتبرير تدهور الجنيه يتعلق بمحاولات الحفاظ على استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية، حيث يُنظر إلى العوائد المرتفعة على السندات المصرية مقارنة بما تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها سببًا مهمًا في استمرار جذب الاستثمارات الأجنبية، ويُقال إن هذا الانخفاض المستمر في قيمة الجنيه يساعد في الحفاظ على جاذبية السندات المصرية بالنسبة للمستثمرين الأجانب. لكن هذا التفسير يظل مجرد قناع يخفي وراءه الفشل الذريع في إدارة الملفات الاقتصادية في مصر، حيث أن الاستثمارات الأجنبية التي كانت مرشحة للزيادة لم تظهر في الواقع، بل زادت المديونية وتعاظمت الأعباء على المواطنين.
إن الحكومة المصرية، في سياق سعيها المستمر لتلميع صورتها أمام المجتمع الدولي، لم تتوقف عن تقديم تبريرات واهية لدعم انخفاض الجنيه، في وقت كان من المفترض أن تتخذ إجراءات حاسمة لضمان استقرار العملة. ما يحدث حاليًا هو أنه بدلًا من مواجهة فساد الإدارة الاقتصادية، تُستمرأ سياسة اللامبالاة والتكتم على الأرقام الحقيقية للأوضاع المالية في البلاد، حيث يكشف الواقع عن فساد متجذر في كافة المستويات الحكومية، ولا يبدو أن هناك أية بوادر لوقف هذا النزيف المستمر في الاقتصاد المصري.
بدلًا من أن تكون هناك خطوات جادة نحو معالجة الأزمة الاقتصادية، نجد أن الحكومة المصرية تمعن في اتباع سياسات تضر بالاقتصاد الوطني وتزيد من عبء الأزمات الاقتصادية على المواطن العادي. فبدلاً من استغلال الفرص التي يتيحها الوضع الدولي لتنفيذ إصلاحات جذرية وواقعية، نجد أن الحكومة تركز على معالجة الأعراض دون الجذور، بل وتستمر في تدمير القطاع العام وتضييق الخناق على الفقراء. وبالرغم من أن بعض المستثمرين الأجانب قد ينجذبون للسندات الحكومية في هذه الظروف، فإن هذا لا يعني أن الاقتصاد في حالة صحية أو أن الشعب المصري يعيش في رفاهية، بل العكس تمامًا.
إن الحقيقة المؤلمة التي يجب أن يواجهها الشعب المصري هي أن تراجع الجنيه ليس مجرد نتيجة لأسباب اقتصادية، بل هو نتيجة لتقاعس الحكومة عن اتخاذ إجراءات حقيقية من شأنها تحسين وضع الاقتصاد، وأن النظام الحاكم يعيش في فقاعة من الوعود الكاذبة والتفسيرات التي لا تحمل أية قيمة حقيقية.