تقاريرعربي ودولى

رؤساء العرب وغياب ثقافة الاعتذار .. أظهر رئيس كوريا الجنوبية قوة المسؤولية

في الساعات الأخيرة قبل التصويت على عزله من منصبه خرج الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول ليقدم اعتذاره لشعبه عن قراره المثير للجدل بمحاولة فرض الأحكام العرفية

ورغم أن هذا الحدث يقع في الطرف الآخر من العالم إلا أن دروسه السياسية والإنسانية تبدو ذات صلة مباشرة بحكام العالم العربي الذين قد لا يدركون أو يتجاهلون بعض جوانب الثقافات السياسية المختلفة في العالم وما يمكن أن تفرضه على المسؤولين من مواقف وقيم

في سياق محاولته لفرض الأحكام العرفية وهي خطوة كانت تستهدف تعزيز سلطته وسط الأزمة السياسية التي كانت تواجهها البلاد فوجئ يون سوك يول بردود فعل غاضبة واسعة النطاق سواء من الشعب أو من البرلمان وبدلاً من الإصرار على موقفه أو التمسك بالسلطة جاء قراره بالتراجع ليحمل دلالات عميقة عن الفهم السياسي الحقيقي وتحمل المسؤولية تجاه الشعب هذا التصرف الذي يعتبر غريباً في عيون بعض الحكام العرب كان رسالة واضحة عن أهمية فهم ثقافة الحكم والمساءلة في النظم الديمقراطية

إعلان يون سوك يول التراجع عن قرار الأحكام العرفية والاعتذار علناً للشعب الكوري جاء كمحاولة لتجنب أزمة سياسية أعمق لكن الأهم هو الطريقة التي تعامل بها مع هذا القرار فقد ظهر على التلفاز الرسمي أمام ملايين المواطنين ليقدم اعتذاره الصريح دون تبريرات أو محاولات للتهرب مما حدث بل إنه انحنى بعمق أمام الشعب في إشارة تحمل معاني ثقافية وسياسية راسخة في كوريا الجنوبية هذا الانحناء الذي يرمز إلى التواضع والاحترام تجاه المواطنين يعكس الثقافة الآسيوية العميقة التي تولي أهمية كبيرة لاحترام الكرامة الإنسانية والاعتراف بالأخطاء وتحمل تبعاتها

في المقابل تشهد المنطقة العربية اختلافاً واضحاً في التعامل مع الأزمات السياسية والاعتراف بالأخطاء حيث يظهر الكثير من الحكام تمسكاً أكبر بالسلطة وعناداً شديداً في مواجهة أي معارضة أو نقد بدلاً من الاعتذار أو التراجع كما فعل الرئيس الكوري الجنوبي ويبدو أن هذه الثقافات المختلفة قد تكون السبب في الفجوة الكبيرة بين فهم القيادة السياسية لمفهوم الحكم في الدول الآسيوية والدول العربية ففي الوقت الذي يعتبر فيه الاعتذار جزءاً من ثقافة الحكم في كوريا الجنوبية قد يُنظر إليه في العالم العربي كعلامة ضعف أو هزيمة

أدى اعتذار يون سوك يول إلى تهدئة التوترات السياسية بشكل كبير حتى مع بقاء احتمال التصويت على عزله مفتوحاً ولكن ما يستحق التوقف عنده هو الدرس الذي يمكن أن يتعلمه السياسيون والحكام في العالم العربي من هذا الموقف فبدلاً من الانزلاق في الأزمات السياسية دون اعتراف بالأخطاء يمكن لخطوة الاعتذار وتحمل المسؤولية أن تكون أداة قوية لبناء جسور الثقة مع الشعوب كما أن الاحترام المتبادل بين الحاكم والمحكوم والتواضع عند الخطأ قد يعزز استقرار البلاد ويحول دون تعميق الأزمات السياسية

في الدول العربية قد يكون الفهم السائد لدى بعض الحكام أن إظهار القوة وعدم الاعتراف بالأخطاء هو السبيل للحفاظ على السلطة وهو تصور يعكس ثقافة سياسية تختلف جذرياً عن ثقافات أخرى حيث يعتبر القادة أنفسهم مسؤولين أمام شعوبهم ويجب عليهم التصرف وفقاً لتوقعات الشعب وما يجلبه هذا من احترام وقبول لتبعات أي قرار يتم اتخاذه

ما فعله الرئيس الكوري الجنوبي في الأيام الأخيرة من حكمه هو نموذج لما يمكن أن تفعله الحكمة السياسية والقدرة على الإصغاء لنبض الشارع والابتعاد عن التصرفات الفردية المتسرعة فحتى في أكثر الأزمات حدة وأمام تهديد حقيقي بفقدان السلطة اختار يون سوك يول أن يضع مصلحة بلاده وشعبه فوق اعتبارات بقاءه الشخصي في الحكم هذه الرسالة قد لا تصل إلى جميع الحكام العرب ولكنها تحمل قيمة كبيرة لأولئك الذين يسعون إلى استدامة حكمهم من خلال بناء علاقة متينة وصحية مع شعوبهم تقوم على الاحترام المتبادل والمساءلة المشتركة

بخلاف بعض الأنظمة العربية التي ترى في الاعتراف بالأخطاء ضعفاً فإن نموذج يون سوك يول يثبت أن الاعتذار ليس سوى قوة سياسية هائلة فالشعب حين يرى رئيسه يتراجع عن قراراته الخاطئة ويعتذر له علناً يجد أن هذا القائد قادر على وضع مصلحة الأمة فوق مصلحته الشخصية وهذا بالضبط ما تفتقده بعض القيادات العربية التي قد ترى في العناد والتشبث بالسلطة خياراً أوحداً في أوقات الأزمات

إذاً هناك درس كبير يمكن أن يستخلصه الحكام العرب من تجربة الرئيس الكوري الجنوبي حيث يمكن للتواضع والتراجع عن الأخطاء أن يكونا أكثر أهمية من القوة الصلبة والاستبداد في الحكم الحكمة السياسية ليست فقط في القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة بل في القدرة على الاعتراف عندما تكون تلك القرارات خاطئة والتصرف بناءً على ذلك وهو ما يعتبر جزءاً من الثقافة السياسية التي لا يعرفها الكثير من القادة العرب

فإن المسؤولية السياسية الحقيقية لا تتعلق فقط بالبقاء في السلطة بل بكيفية إدارة الحكم بطرق تستجيب لاحتياجات وتطلعات الشعوب وهنا يظهر الفرق الواضح بين ثقافات الحكم في الدول الديمقراطية مثل كوريا الجنوبية وبين الثقافات السياسية في الدول العربية حيث يبدو أن الحكام ما زالوا بعيدين عن الاعتراف بالأخطاء والتعلم من تجارب الآخرين

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى