عندما تحين لحظة الكتابة عن أمي، لا أستطيع أن أقاوم فيض المشاعر الذي يجتاحني كالعاصفة، يعصف بي في كل اتجاه وكما لا أستطيع أن أوقف دموعي ولا أن أهدأ، وكأن الحزن يرفض أن يترك قلبي أبدًا.
أمي لم تكن مجرد شخص في حياتي، كانت هي كل شيء؛ هي الأمان والحنان، هي الشعور بأنني في مكان آمن مهما كان العالم من حولي قاسيًا.
إن غيابها ليس مجرد غياب جسدي؛ بل هو خسران جزء من روحي، وكأنني فقدت بوصلة حياتي للأبد. أمي لم تكن فقط أمًا بالمعنى التقليدي للكلمة، بل كانت محور الكون بالنسبة لي وموتها هو فاجعة هزت كياني وسلبتني جزءًا من روحي.
حين كانت أمي هنا، كان كل شيء يتنفس الحياة. كانت هي النور الذي يضيء مساراتي، والدعاء الذي ينير دروبي.
هي التي رسمت خطوط الطمأنينة في حياتي، وهي التي كانت تُضيء مساراتي المظلمة حين كانت ظلال الحياة تبدو قاتمة لا أمل فيها. أن تفقد شخصًا أحببته بقدر ما أحببت أمي، ليس حدثًا عابرًا يمكن تجاوزه، بل هو جرح يتجدد كل يوم، وجزء من قلبك يتآكل ببطء.
وفي كل يوم يأتي ذكرى ميلادها، أشعر أنني أغرق أكثر في بحر الذكريات، تلك اللحظات التي لا يمكن تعويضها.
اليوم، السابع من ديسمبر، هو عيد ميلادها، اليوم الذي كان ينبغي أن يكون مناسبة سعيدة، لكنه الآن يتحول إلى يوم يحطم قلبي بشكل غير قابل للإصلاح.
كيف لي أن أحتفل بعيد ميلاد شخص لم يعد موجودًا؟ كيف لي أن أواجه هذا العالم المليء بالبرودة والغموض دون تلك اليد الحنونة التي كانت تمتد نحوي في كل وقت؟
ستة أعوام مرت منذ رحيلها، وستة أعوام من الندم المستمر. الندم على كل كلمة لم تُقال، وكل لحظة لم تُقدّر كما ينبغي .. أمي كانت دائمًا تعطيني من حبها بلا حساب، وأنا لم أعطها ما يكفي من الامتنان.
هل كنت أستطيع أن أفعل أكثر؟ هل كان بإمكاني أن أكون أفضل في تقديري لها؟ الأسئلة تلاحقني بلا هوادة، ولا جواب لها إلا الألم. لم أكن أدرك حينها أن كل لحظة معها كانت ثمينة، واليوم أصبح فقدانها هو أكبر عقاب لي.
كيف لم أتمكن من إخبارها في حياتها كم كانت تعني لي؟ أمي لم تكن تحتاج إلى الكثير من الكلمات، لكنني أحتاج الآن أن أصرخ بصوتٍ عالٍ لكي تسمعني: “أمي، أنا أفتقدكِ إلى حد لا يمكنني وصفه.”
لا أستطيع أن أنساها، ولن أستطيع. كل تفاصيل حياتي تُذكرني بها. حتى في أصغر التفاصيل اليومية، أراها في كل شيء: في الطريقة التي أعد بها الطعام، في الأغاني التي كانت تحب سماعها، في رائحة الورد الذي كانت تزرعه في حديقتنا الصغيرة. كيف يمكن لعقلٍ أن ينسى من كان هو القلب النابض لحياته؟ كل لحظة تمر، أتخيل وجهها، أسمع صوتها في أحلامي.
هل كان بإمكاني فعل المزيد؟ هذا السؤال يؤرقني، يلاحقني في كل لحظة يقظة. ربما لو كنت أكثر وعيًا، لو كنت أكثر تقديرًا، لو كنت أكثر حبًا وصبرًا معها.
لكن الأسئلة لن تعيد الماضي، ولن تمنحني فرصة أخرى لأحتضنها وأقول لها كم كانت تعني لي. كل ما أملكه الآن هو الدعاء، الدعاء بأن يغفر الله لها، ويرحمها، ويمنحها الجنة، المكان الذي تستحقه بجدارة، حيث لا ألم ولا حزن.
في مثل هذا اليوم، لم أعد أحتفل؛ بل أعيش حالة من التأمل العميق في ما فقدته وما لا يمكن تعويضه. أمي، كانت مصدر القوة والإلهام. غيابها ترك فراغًا لا يمكن أن يُملأ بأي شخص آخر. إنها ليست مجرد ذكرى عابرة في حياتي، بل هي حياة كاملة انتهت دون سابق إنذار.
أعلم أن الموت حق، وأن كل نفسٍ ذائقة الموت، لكن كيف يمكنني أن أتصالح مع حقيقة أنني لن أراها مرة أخرى في هذه الدنيا؟ أحيانًا أتساءل: هل تراني من الجنة؟ هل تراقبني وتشعر بحزني وألمي؟ أتمنى أن تكون في مكان أفضل، مكانٍ يليق بنقاء روحها وطيبة قلبها.
أمي، رغم كل الكلمات التي أكتبها، لن أستطيع أن أصف لكِ حجم الحزن الذي أشعر به. لن أستطيع أن أضع في كلمات ما يختلج في قلبي من ألم.
لكنني سأظل أحتفظ بكِ في كل زاوية من حياتي. سأظل أستحضر روحكِ الطاهرة في كل خطوة أخطوها. سأظل أطلب من الله أن يغفر لكِ ويرحمكِ، وأن يجعل قبركِ نورًا وجنة واسعة، حيث لا ألم ولا حزن.
في كل عام، وفي كل لحظة، سأحتفل بكِ في قلبي. فحتى وإن رحلتِ جسدًا، ستظل روحكِ حية في أعماقي إلى الأبد، وأنا سأظل أعيش على ذكراكِ، محتفظًا بحبكِ الذي لن ينطفئ أبدًا.
عيد ميلاد سعيد يا أمي، لكن ليس كما اعتدنا. هذا العيد ليس سعيدًا بالنسبة لي، بل هو يوم للتأمل في كل ما كان وكل ما فقد.
يا رب، اغفر لأمي، وارحمها، وأنر قبرها بنور لا ينطفئ أبدًا. يا رب، اجعلها في أعلى مراتب الجنة، حيث تكون روحها الطيبة في راحة وسلام دائمين. لن أتوقف عن الدعاء لكِ أبدًا، ولن أتوقف عن حبكِ أبدًا.
يبقى السؤال: كيف يمكنني أن أستمر دونك؟ كيف يمكنني أن أتحمل هذا العالم الخالي من دفء حضنك؟ ربما الجواب الوحيد هو في الإيمان بأننا سنلتقي مرة أخرى، وأن الحياة ليست نهاية الحكاية،
بل هي فصل مؤقت في قصة أكبر وأعمق. حتى ذلك الوقت، سأظل أحمل ذكراكِ معي، وسأظل أحتفل بعيد ميلادكِ في قلبي، كل عام وكل يوم.