تتوالى تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات تكشف فسادًا واسعًا في وزارة قطاع الأعمال والشركة القابضة للتشييد والتعمير تحت إدارة الدكتور محمود عصمت، الوزير الحالي للكهرباء ووزير قطاع الأعمال سابقًا، حيث أظهرت الوثائق الرسمية أن تلك الفترة شهدت العديد من الانحرافات المالية والمخالفات الجسيمة.
تكشف المستندات عن أوجه القصور والإهمال الذي تميزت به الشركة القابضة للكهرباء، وزارة الكهرباء، والحكومة المصرية ككل، التي لم تتخذ أي إجراءات جدية لمعالجة هذا الوضع، مما يثير تساؤلات حول مصلحة من يتم إهدار المال العام بهذه الطريقة وكمية الأموال الضخمة التي ضاعت نتيجة هذا الفساد الصارخ.
إخفاء إيرادات بقيمة 289 مليون جنيه والتلاعب بأذون الخزانة
تشير المستندات إلى أن الشركة القابضة لكهرباء مصر في عهد الوزير محمود عصمت قامت بإخفاء إيرادات بقيمة 289 مليون جنيه، وهي القيمة المستحقة على أذون خزانة بقيمة 10 مليارات جنيه، وذلك خلال الفترة من 17 نوفمبر 2023 وحتى 31 ديسمبر 2023.
هذا الإخفاء المتعمد للإيرادات لم يكن مجرد خطأ إداري، بل تضمن أيضًا التهرب من سداد ضرائب بقيمة 58.4 مليون جنيه كانت مستحقة على تلك الإيرادات. الشركة لم تقم بتحميل تلك المصروفات في القوائم المالية، مما يظهر تقاعسًا واضحًا في إدارة أموال الدولة ومما يثبت وجود فساد إداري كبير داخل الشركة.
مشروع الـ 23 عمارة: أموال مسروقة ورسوم وهمية
واحدة من أكثر القضايا المثيرة هي تلك المتعلقة بمشروع إنشاء 23 عمارة بالحي التاسع في هليوبوليس. تشير المستندات إلى أن الشركة قامت بتسجيل مبلغ 3.4 مليون جنيه ضمن بند “أعمال تحت التنفيذ” كرسوم هندسية للمشروع، رغم أن الأرض التي كان من المفترض أن يقام عليها المشروع تم بيعها منذ عام 2019 لشركة إدارة الأصول القومية.
هذه الرسوم الهندسية الوهمية تطرح العديد من الأسئلة: ما هو اسم المكتب الهندسي الذي قُدمت له تلك الرسوم؟ هل قام بالفعل بأي أعمال؟ وإذا استلم تلك الأموال، فأين الإجراءات القانونية لاستعادة تلك المبالغ؟ الأسئلة تظل بلا إجابة في ظل صمت الوزير والمسؤولين المعنيين.
بيع وحدات سكنية بأسعار منخفضة بشكل مثير للريبة
أظهرت التقارير أيضًا أن الشركة القابضة لكهرباء مصر قامت ببيع وحدات سكنية وأراضٍ بمشروعات في منطقة شيراتون وهليوبوليس الجديدة بأسعار تقل بنحو 4 ملايين جنيه عن أسعار البيع الفعلية التي كانت سائدة في السنوات السابقة.
هذا التخفيض غير المبرر يثير تساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء هذا القرار. من المستفيد من خفض أسعار الوحدات السكنية والأراضي في مصر، خاصة في ظل الارتفاع المستمر لأسعار العقارات؟ ومن الذي يتربح من وراء هذه التخفيضات؟
اختلاس الأموال وتلاعب بالأرقام
المزيد من الانحرافات المالية التي كشفتها تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات تتعلق بقضية اختلاس حوالي مليون جنيه من أموال الشركة، وهي قضية ما تزال قيد التحقيق في النيابة العامة منذ مارس 2023.
وفضلاً عن ذلك، كشفت التقارير أن الشركة قامت بتحصيل 63.6 مليون جنيه من العملاء تحت بند الصيانة، لكن المفاجأة أن الشركة لم تقم بتوريد سوى 45 مليون جنيه فقط، مما يترك 18.6 مليون جنيه دون أي أثر أو توضيح حول مصيرها.
انتهاكات صريحة في مخزون هليوبوليس: فساد مكشوف وصمت حكومي مريب
تم اكتشاف أن هناك مبلغ 16 مليون جنيه تحت مسمى “أمانات مخزن هليوبوليس” تبين فيما بعد أن هذه الأصناف ملك للشركة بالكامل وليست مجرد أمانة.
الأمر الذي يثير الشكوك حول ما إذا كانت الشركة قد استغلت هذا الوضع لبيع المخزون أو تمرير الأموال بشكل غير قانوني. مرة أخرى، الصمت الرسمي مستمر والوزير عصمت، الذي كان على دراية بهذه المخالفات في حينها، لم يتخذ أي إجراءات.
مخالفات “زهراء المعادي”: مصالح شخصية وتضارب في الأدوار
كشف الجهاز المركزي للمحاسبات عن مخالفة صريحة تتعلق بعضو مجلس إدارة شركة “زهراء المعادي”، نجلاء داغر، التي كانت تشغل منصب مستشار وزير قطاع الأعمال الدكتور محمود عصمت، مما يضعها في وضع قانوني يتعارض مع صفتها كعضو مستقل في مجلس الإدارة.
هذا التضارب في المصالح يخرق القوانين المعمول بها في الهيئة العامة للرقابة المالية ويثير تساؤلات حول سبب السماح لداغر بالاستمرار في هذا المنصب رغم تلك المخالفات الواضحة.
من المؤكد أن هذا يعكس مستوى من الفساد المستشري داخل الوزارة، حيث أن القوانين نفسها التي يُفترض أن تحمي المال العام يتم انتهاكها من قبل أولئك الذين من المفترض أن يلتزموا بها.
تصفية شركة “النصر للكوك” وتشريد العمال: كارثة اجتماعية واقتصادية
في عهد محمود عصمت كوزير لقطاع الأعمال، تمت تصفية شركة “النصر للكوك” وتشريد أكثر من 1200 عامل، تتراوح أعمارهم بين 30 و40 عامًا، دون توفير أي حلول بديلة لهم.
تلك الكارثة ليست فقط انتهاكًا لحقوق العمال ولكنها أيضًا تعبير صريح عن تقاعس الحكومة والوزارة عن دعم الصناعة الوطنية والاقتصاد المحلي.
صفقة النصر وإعمار: من إهدار مليارات إلى تواطؤ واضح
من بين أكبر الانحرافات المالية التي شهدتها فترة محمود عصمت هو تدخله لإتمام تسوية بين شركة النصر للإسكان والتعمير وشركة “إعمار” الإماراتية بمبلغ 100 مليون جنيه فقط، بدلاً من 4.5 مليار جنيه كان يجب أن تحصل عليها شركة النصر بناءً على قرار مجلس إدارتها.
هذا التواطؤ بين عصمت والشركة الإماراتية أدى إلى إهدار حقوق الدولة وأموالها على مرأى ومسمع الجميع دون أي تدخل جاد من الجهات الرقابية أو الحكومية.
اتفاقيات مشبوهة بين “القابضة للتشييد” و”إدارة الأصول”
كما أظهرت التقارير تجاوزات أخرى تتمثل في تعاقدات بين الشركة القابضة للتشييد والتعمير والشركة القومية لإدارة الأصول، حيث حصلت الأخيرة على نسبة 50% من إيرادات القابضة دون وجود أي أساس قانوني لهذا التعاقد.
ليس هذا فحسب، بل تم إيداع مبالغ كبيرة في حساب الشركة القومية دون أن يتم التوقيع النهائي على التعاقد أو موافقة الجمعية العامة للشركة القابضة، مما يثير الشكوك حول مدى تورط مجلس إدارة الشركة في هذه التجاوزات واستغلالهم لممتلكات الدولة.
استقالات بالجملة ورفض الفساد: موقف المهندس إيهاب أحمد حسن
استمرارًا لمسلسل الفساد في الشركة القابضة للتشييد، تقدم المهندس إيهاب أحمد حسن باستقالته المسببة، حيث أبدى اعتراضه الصريح على مقترح الصلح المقدم من شركة البيهانيا شيراتون هايتس للتطوير والاستثمار العقاري، والذي رآه تهديدًا صارخًا للمال العام.
ولكن الشركة القابضة أصرت على تمرير هذا المقترح غير القانوني، مما دفع حسن إلى التقدم باستقالته احتجاجًا على هذا التوجه الكارثي.
إهدار المال العام بحكم القضاء: الضغط على أعضاء مجلس الإدارة
من بين الفضائح الأخرى أن الشركة القابضة للتشييد مارست ضغوطًا على أعضاء مجلس إدارة الشركة القومية لإدارة الأصول للتنازل عن مبلغ 28 مليون جنيه، كان حكم بها القضاء لصالح الشركة ضد شركة مصر الجديدة. تم تخفيض المبلغ إلى 10 ملايين جنيه فقط، في انتهاك صارخ للقانون وإهدار صريح للمال العام.
صمت الأجهزة الرقابية وتواطؤ الحكومة: إلى متى يستمر الفساد؟
في ظل كل هذه المخالفات والانتهاكات، تظل الأجهزة الرقابية والحكومة صامتة، مما يثير تساؤلات حول مدى تواطؤهم مع هذا الفساد المستشري.
وزارة الكهرباء تحت إدارة الدكتور محمود عصمت لن تختلف عن وزارة قطاع الأعمال، حيث يبدو أن الفساد متجذر في كلا المؤسستين، وأن الحكومة المصرية عاجزة أو غير راغبة في محاربة هذا الفساد.
الاعتراف أول خطوة
في النهاية، لا يمكن أن يتم القضاء على هذا الفساد إلا إذا اعترفنا جميعًا بأننا جزء من المشكلة. الفساد لا يقتصر على المسؤولين وحدهم، بل هو جزء من النسيج الاجتماعي الذي نعيش فيه.
يجب أن يبدأ الإصلاح من أعلى الهرم إلى أدناه، وإذا استمررنا في الاحتفال بيوم مكافحة الفساد دون اتخاذ خطوات جادة، فإننا جميعًا سنظل غارقين في هذا المستنقع.