أعتقد نتنياهو أن الوقت قد حان لتصفية حساباته نهائياً مع إيران، خصوصاً بعد فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية التي جرت في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بل وربما يكون قد بدأ يضع بالفعل لمسات نهائية على جولة أخرى للصراع مع إيران.
لم يشهد العالم المعاصر مشروعاً استعمارياً استيطانياً إحلالياً، يعتمد في ركائزه ومقوّماته الأساسية على أساطير دينية وسياسية، ويستخدم في تبرير مخططاته العنصرية خطاباً إعلامياً يقوم على الكذب والغش والخداع والتضليل، مثل المشروع الذي صاغته الحركة الصهيونية التي أسسها ثيودور هرتزل في نهاية القرن التاسع عشر.
فهو مشروع يقوم على خرافة دينية وسياسية مفادها أنّ اليهودية ليست مجرّد دين يعتنقه أفراد ينتشرون في مختلف البقاع وينتمون إلى قوميات متعدّدة، وإنما هي وعاء أو إطار قومي في الوقت نفسه، ما يعني أن اليهود ليسوا مجرّد أفراد يعتنقون ديناً بشّر به موسى، مثلما يعتنق المسيحيون الدين الذي بشّر به عيسى، ومثلما يعتنق المسلمون الدين الذي بشّر به محمد، صلوات الله عليهم جميعاً، وإنما هم شعب له وطن تاريخي اسمه فلسطين، ويشكّل من ثم قومية يحقّ لها أن تؤسس لدولة خاصة بها، تناسب “شعب الله المختار”.
لا تستطيع تلك الأسطورة الدينية، والتي تشكّل جوهر المشروع الصهيوني، أن تصمد أمام الحقائق التاريخية المجردة. فالعرب الكنعانيون هم السكان الأصليون لفلسطين وعاشوا فيها قبل ظهور النبي موسى بآلاف السنين.
صحيح أن اليهود الذين يمكن اعتبارهم حقاً من أتباع النبي موسى تمكّنوا من تأسيس مملكة لهم في فلسطين، لكن ذلك تم خلال حقبتين تاريخيتين متباعدتين عمر كل منهما أقل من ثمانين عاماً.
أما اليهود الذين أسسوا الحركة الصهيونية وتمكّنوا من إقامة “دولة” لهم في فلسطين فلا علاقة لهم بأتباع موسى، وبالتالي لا صلة تربطهم بـ “شعب الله المختار” أو بـ “الأرض الموعودة”، لأن معظمهم ينتمي إلى قبائل من أصول أوروبية شرقية تسمى “الخزر”، اعتنقت الديانة اليهودية في مرحلة ما بين منتصف القرنين الثامن والتاسع، ولأسباب سياسية بحتة.
ومن الثابت تاريخياً أنه ما كان بمقدور المشروع الصهيوني تثبيت دعائمه على أرض الواقع لولا تبنّيه من جانب بريطانيا إبان الحرب العالمية الأولى، كي تضمن عدم إعادة إحياء الخلافة الإسلامية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وللحيلولة في الوقت نفسه دون قيام دولة عربية موحّدة في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
وعندما تراجع دور بريطانيا في النظام العالمي، حلّت محلّها الولايات المتحدة الأميركية، ما يعني أنه مشروع استعماري يرتبط عضوياً بالهيمنة الغربية على العالم ولا يستطيع أن يعيش من دونها.
خلال السنوات الأولى التي أعقبت قيام الكيان الصهيوني عام 1948، حاولت الدول الغربية إقناع العالم العربي بأن التجربة القاسية التي مرّوا بها إبان فترة الحكم النازي تجعل اليهود أشدّ الناس حرصاً على أن تكون لهم دولة مستقلة، لضمان عدم تكرار ما تعرّضوا له من أهوال، كما تجعلهم أيضاً وعلى وجه الخصوص أشدّ الناس حرصاً على العيش بسلام مع جيرانهم.
غير أن الوقائع التاريخية تثبت عكس هذه المقولة تماماً وتؤكّد أن المشروع الصهيوني ولد توسّعياً واستهدف منذ البداية تفتيت المنطقة، لضمان خضوعها الدائم للهيمنة الغربية وللحيلولة دون قيام دولة قوية فيها.
لذا أهدر الكيان الصهيوني جميع الفرص التي أتيحت أمامه للتوصّل إلى سلام شامل مع الدول العربية المجاورة. ففي خمسينيات القرن الماضي جرت محاولة أميركية للوساطة، تبيّن من خلالها أنه لم يكن لدى الرئيس عبد الناصر مانع من قبول تسوية على أساس مشروع التقسيم الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، مع تعديلات طفيفة في الحدود تضمن التواصل الجغرافي بين مصر والمشرق العربي، لكن الكيان رفض، بل وقام بشنّ غارة قتل فيها العشرات من جنود الجيش المصري المرابط في قطاع غزة، ثم تواطأ مع كل من فرنسا وبريطانيا لشنّ عدوان على مصر عام 56.
وفي الستينيات قبلت الدول العربية قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي نص على “حدود آمنة معترف بها” وعلى “عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة”، لكن الكيان رفض الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، من حيث المبدأ.
وفي السبعينيات لاحت فرصة فريدة لسلام شامل، خاصة بعد زيارة السادات للقدس، لكن الكيان رفض وأصرّ على معاهدة سلام منفردة مع مصر ولم يقبل إلا بحكم ذاتي للفلسطينيين.
وفي التسعينيات تجدّدت الفرصة، خاصة بعد مؤتمر مدريد الذي شاركت فيه جميع الدول العربية للمرة الأولى.
لكن الكيان رفض التسوية الشاملة وأصرّ على مفاوضات منفصلة مع كل دولة عربية على حدة، بدأها باتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية.
وعندما تعثّرت المفاوضات مع المنظّمة، طرح العالم العربي مبادرة شهيرة عام 2002، أبدى فيها استعداده لسلام شامل على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام وقيام دولة فلسطينية مستقلة، لكن الكيان ردّ بمحاصرة عرفات ثم اغتياله.
فقد تعامل الكيان الصهيوني مع كل خطوة عربية نحو التسوية باعتبارها دليل ضعف، وليس تعبيراً عن رغبة صادقة في السلام. وعندما نجح في توجيه ضربة قاصمة إلى المشروع القومي العربي الذي قادته مصر الناصرية، بعد تمكّنه من إلحاق هزيمة قاسية بثلاثة جيوش عربية واحتلال سيناء والجولان وما تبقّى من فلسطين التاريخية، تولّدت لدى الكيان قناعة بأنه بات قاب قوسين أو أدنى من إقامة “دولة إسرائيل الكبرى”، ترسّخت أكثر حين نجح في إخراج مصر الساداتية من معادلة الصراع العسكري وتمكّن من إبرام معاهدة سلام منفردة معها عام 1979.
وعندما بدأت رياح التيار الإسلامي تهب على المنطقة بشدة، خاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران في العام ذاته، خشي الكيان أن ينجح في التصدّي للمشروع الصهيوني بقوة أكبر ونجح، بالتعاون الوثيق مع حلفائه الغربيين، في استدراج العراق نحو حرب طويلة ضد إيران امتدّت لثماني سنوات، وأيضاً في إشعال حرب طائفية بين السنة والشيعة، لا تزال نيرانها متقدة تحت الرماد حتى الآن.
غير أن إيران أثبت أنها ليست لقمة سائغة يمكن للكيان الصهيوني أن يبتلعها بسهولة، ومن ثم تمكّنت من إدارة صراعها معه بطريقة أتاحت لها تسجيل نقاط عديدة راحت تتراكم باستمرار، خصوصاً بعد أن استطاع حزب الله، حليفها القوي على الجبهة الشمالية للكيان، تحرير الجنوب اللبناني من دون قيد أو شرط، ومن الصمود في وجه العدوان الصهيوني الذي حاول تحطيمه عام 2006، وأخيراً بادر بتقديم إسناد عسكري فعّال لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة عقب حرب الإبادة الجماعية التي شنها الكيان على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر.
لا شك أن “طوفان الأقصى” فاجأ الجميع، بما في ذلك إيران نفسها، غير أنه شكّل نقطة تحوّل كبرى في تاريخ الصراع مع الكيان.
صحيح أن الأخير رأى في إيران تهديداً وجودياً له، وذلك لأسباب عديدة أهمها برنامجيها النووي والصاروخي من ناحية، ودورها في تسليح حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية من ناحية أخرى.
ومع ذلك ظل الصراع بينهما يدار بوسائل غير مباشرة ولم يأخذ شكل المواجهة العسكرية المباشرة إلا في أعقاب الطوفان، حيث وجد الكيان نفسه مشتبكاً في صراع مسلّح على عدة جبهات، طال لأكثر من أربعة عشر شهراً، وذلك للمرة الأولى في تاريخه.
ولأن نتنياهو أيقن أن إيران تمدّ كلّ هذه الجبهات بالمال والسلاح، وبالتالي فهي العقل المدبّر والمدير الفعلي للجولة الحالية من الصراع المسلح في المنطقة، فقد أصبح مقتنعاً تماماً بأن الحساب يجب أن يصفّى معها هي وليس مع أي طرف آخر، خصوصاً بعد أن شنّت عليه هجومين انطلقا من أراضيها مباشرة، استخدمت فيهما صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة، وأعلنت مؤخّراً أنها تستعدّ للقيام بهجوم ثالث أكثر إيلاماً في التوقيت الذي تختاره.
لذا يعتقد نتنياهو أن الوقت قد حان لتصفية حساباته نهائياً مع إيران، خصوصاً بعد فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية التي جرت في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بل وربما يكون قد بدأ يضع بالفعل لمسات نهائية على جولة أخرى للصراع مع إيران، وذلك بالتوازي مع تصريحات صدرت عنه مؤخّراً، توحي بأن الشرق الأوسط على وشك الدخول في مرحلة مختلفة تماماً.
فهو يبدو مقتنعاً بأنه ألحق هزيمة ساحقة بحماس، على الرغم من عجزه عن تحرير الأسرى حتى الآن، ويعتقد أنه قصم ظهر حزب الله، على الرغم من أنه كان المبادر بطلب وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية، وها هو يتجه الآن نحو سوريا لإشغالها بصراع داخلي واسع النطاق، يأمل أن يسهم في قطع الإمدادات العسكرية عن حزب الله.
لا يخالجني أيّ شكّ في وقوف الكيان الصهيوني خلف الاضطرابات المشتعلة حالياً في الشمال السوري، لأنه أول المستفيدين من إشعال هذه الاضطرابات، إذ لا يمكن بالعقل تصوّر إمكانية وجود جهة لديها حدّ أدنى من الحسّ الوطني أو القومي أو الديني، وتعتقد في الوقت نفسه أن الوقت الحالي هو المناسب لتغيير النظام في سوريا، أو تؤمن حقاً بأن الجهات التي قرّرت الدخول في قتال الآن ضد الجيش السوري تستطيع حقاً أن تبني نظاماً أكثر ديمقراطية من نظام بشار، وبالتالي فالأرجح أنها تعمل لحساب نتنياهو الذي بات مقتنعاً بأن الطريق إلى طهران يمرّ حتماً بدمشق.
ورغم قناعتي التامة بأنّ حساباته ستخيب وأنّ السحر ربما ينقلب سريعاً على الساحر، إلا أنني أظن، وبعض الظن ليس إثماً، أنّ المنطقة على وشك الدخول في مرحلة عصيبة ومثيرة للقلق البالغ.