شهد قطاع الكهرباء في مصر خلال السنوات الماضية كوارث لا تعد ولا تحصى في محطات توليد الطاقة، مما أدى إلى خسائر فادحة في قدرات توليد الطاقة الكهربائية.
معظم هذه الكوارث ترتبط بشركة ألستوم الفرنسية، التي باتت توصف بأنها “مقبرة” محطات الكهرباء المصرية، حيث تعاني المحطات التي عملت بها الشركة من تدمير شامل وخرجت عن الخدمة في أوقات قياسية،
مثلما حدث في محطة شمال القاهرة التي توقفت عن العمل ومحطة النوبارية التي تحطمت ريش توربيناتها. أما محطة الكريمات فقد خرجت من الخدمة بعد 17 يومًا فقط، ومحطة التبين انفجرت بعد شهر واحد من التشغيل.
التساؤلات تثار بشكل كبير حول دور وزارة الكهرباء في هذه الأزمات المتلاحقة، وتقاعسها عن مواجهة الفساد الذي يضرب القطاع منذ سنوات. التقاعس ليس مقتصرًا على وزارة الكهرباء فقط، بل يمتد إلى الحكومة المصرية والشركة القابضة لكهرباء مصر التي تديرها شخصيات متورطة في الفساد.
المهندس جابر دسوقي، الذي يتولى رئاسة الشركة القابضة منذ عام 2012، يعد أبرز المسؤولين المتهمين بالتواطؤ في قضايا فساد هائلة تضرب القطاع الكهربائي في البلاد.
دسوقي، الذي بقي في منصبه لأكثر من 11 سنة مدعومًا من تحالفات داخلية وخارجية، لم يُعرف عنه اتخاذ أي إجراء لمكافحة الفساد، بل اكتفى بالصمت في وجه تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات التي تكشف عن إهدار أموال الدولة وتورط المسؤولين.
الفضائح التي تورطت فيها الشركة القابضة متعددة وكبيرة، منها إصدار نحو 90 مليون جنيه مكافآت لضباط شرطة الكهرباء خلال ثمانية أشهر فقط، دون أي مساءلة أو تحقيق، فيما تظل قضايا الكوارث الفنية للمحطات الكهربائية التي تديرها ألستوم مغطاة بستار من التعتيم الحكومي والرقابي.
الفساد العميق والرشاوى التي لم تُحاسب
شركة ألستوم الفرنسية ليست مجرد طرف في إخفاقات مصرية، بل تورطت في فضائح رشاوى عالمية. في عام 2014، كشفت السلطات الأمريكية عن فضيحة كبرى في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، حيث قدمت ألستوم رشاوى بملايين الدولارات للحصول على عقود تنفيذ محطات كهرباء بمليارات الدولارات، بما في ذلك مصر.
تورط في هذه القضية عاصم الجوهري، المدير التنفيذي لشركة بجسكو، الذي حُكم عليه بالسجن 42 شهرًا وتغريمه مليون دولار لتورطه في تقاضي رشاوى من ألستوم وتوزيعها على مسؤولين كبار في الشركة القابضة لكهرباء مصر.
ألستوم اعترفت بمسؤوليتها عن الرشاوى، ودفعت غرامة مالية ضخمة بلغت 772 مليون دولار، إلا أن المسؤولين المصريين المتورطين في هذه الفضيحة لم يُحاسبوا حتى الآن، مما يثير شكوكا حول تواطؤ الحكومة المصرية ووزارة الكهرباء في التستر على الفساد.
رغم هذه الفضيحة، لا تزال ألستوم تنال عقودًا ضخمة في مصر، مما يطرح العديد من التساؤلات حول من يسهل لها هذه العقود ويغض الطرف عن فشلها المتكرر في تنفيذها.
أزمات محطات توليد الكهرباء وعجز الوزارة
على مدار سنوات طويلة، دخلت ألستوم إلى السوق المصرية منذ نحو 30 عامًا، لكن نتائجها كارثية في معظم محطات الكهرباء التي تعاملت معها.
على سبيل المثال، توقفت محطة شمال القاهرة عن العمل بسبب اهتزازات شديدة أدت إلى تحطيم “رومان بلي” الخاص بالتوربينة، وتكلفة الإصلاح وصلت إلى 33 مليون جنيه. أما محطة النوبارية، فقد شهدت تحطيم ريش التوربين بسبب عيوب في المكثف وتوقف العمل فيها لفترة طويلة.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. محطة الكريمات، التي خرجت عن الخدمة بعد 17 يومًا من التشغيل التجريبي بسبب تدمير التوربينة، ومحطة التبين التي انفجرت بعد شهر واحد من بدء التشغيل التجريبي نتيجة انفجار الهيدروجين بالمولد،
تحملت تكاليف إصلاحها شركة القاهرة لإنتاج الكهرباء، بينما تقاضت ألستوم نحو 36 مليون جنيه تحت حساب الإصلاح، رغم مسؤوليتها الكاملة عن الحادث.
حتى بعد كل هذه الكوارث، حصلت ألستوم في مارس 2014 على عقد صيانة وتجديد محطة كهرباء سمالوط بالمنيا بتكلفة 52 مليون دولار، كما فازت في نوفمبر بعقد بقيمة 194 مليون جنيه لوحدة توليد بمحطة محولات كهرباء جنوب حلوان.
هذه العقود المستمرة تثير دهشة المتخصصين الذين يتساءلون كيف يمكن لشركة ذات سجل فاشل كهذا أن تحتكر مشروعات الكهرباء المصرية.
التحقيقات المفقودة والتستر الحكومي
رغم جميع الأدلة التي تشير إلى تورط المسؤولين المصريين في فضائح الفساد مع ألستوم، لم يُحاسب أحد حتى الآن، بل يستمر الفساد في التغلغل في الشركة القابضة ووزارة الكهرباء دون أي تحرك من الجهات الرقابية.
الحكومة المصرية والبرلمان يقفان صامتين أمام هذا الفساد، ولا يجرؤان على مواجهة الفاسدين الذين ينهبون أموال الدولة.
السؤال الأهم: لماذا لم يقدم المتورطون في فضائح الرشاوى إلى القضاء؟ لماذا لم يتم عزلهم من مناصبهم واستبدالهم بشخصيات وطنية نزيهة؟ الغياب التام للمساءلة يجعل الشعب المصري يفقد الثقة في أي جهد حكومي لمكافحة الفساد.
الفوضى نفسها تضرب محطات الطاقة الشمسية والرياح ومصادر الطاقة المتجددة الأخرى، حيث يذهب الحديث إلى مشاريع كبيرة بينما الواقع يظهر عجزًا كبيرًا وعدم قدرة على تنفيذ تلك المشاريع بشكل سليم.
كارثة الضبعة النووية ومفاعل لا يعمل
لم تقتصر الفوضى على محطات الكهرباء فقط، بل امتدت إلى مشاريع الطاقة النووية. مشروع الضبعة النووي الذي طالما تم الترويج له كمشروع قومي استراتيجي يواجه الآن شبح الفشل، بسبب العيوب الفنية التي تعاني منها المفاعلات.
لم يتم الإعلان عن أي تقدم فعلي في المشروع، بينما تذهب الأموال إلى مكافآت ضخمة للمسؤولين دون أي إنتاج حقيقي.
المسؤولون عن هيئة الطاقة الذرية ووزارة الكهرباء يديرون المشروع بعشوائية مفرطة، مما دفع ممثل وزارة المالية إلى رفض إضافة أي اعتمادات جديدة بسبب الإهدار الهائل للمال العام.
هذه الفوضى المستمرة تعكس مدى انحدار الإدارة الحكومية في مصر وغياب أي رقابة فعلية على إنفاق المال العام.
صفقة بيع شركة النصر للغلايات وفساد متواصل
من أبرز فضائح الفساد المرتبطة بقطاع الكهرباء هي صفقة بيع شركة النصر للغلايات “المراجل البخارية”، التي كانت تمثل جزءًا حيويًا من إنتاج محطات الكهرباء والطاقة النووية.
بيعت الشركة لصالح مستثمرين أمريكيين وكنديين بثمن بخس لا يتعدى 17 مليون دولار، رغم أن قيمة الأرض المقامة عليها الشركة وحدها كانت تقدر بنحو 100 مليون دولار.
بعد بيع الشركة، تم إسناد عملية إنشاء محطة كهرباء الكريمات إلى الشركة نفسها بقيمة 600 مليون دولار، في حين تجاهلت الحكومة عروضًا أفضل من شركات إيطالية وفرنسية ويابانية.
هذه الصفقة الصارخة تعكس مدى تورط المسؤولين في إهدار المال العام لصالح مستثمرين أجانب، على حساب المصلحة الوطنية.
حرائق محطات الكهرباء ودليل آخر على الفساد
حتى في عام 2024، تستمر الكوارث في محطات الكهرباء. اندلع حريق بمحطة غرب دمياط الجديدة في سبتمبر 2024، أدى إلى أضرار جسيمة بالوحدة الغازية رقم (4)، ثم اندلع حريق آخر في الوحدة الغازية رقم (2) بعد أسابيع قليلة، مما تسبب في خسائر مالية كبيرة. ورغم ذلك، تم التعتيم على هذه الحوادث من قبل الحكومة، دون أي إعلان رسمي أو تحقيق شفاف.
الفساد ينهش قطاع الكهرباء ومستقبل مصر
الفساد المستشري في وزارة الكهرباء والشركة القابضة لكهرباء مصر لا يزال مستمرًا، ولا توجد أي بوادر لمحاسبة المتورطين أو إصلاح الأوضاع. مصر بحاجة ماسة إلى حكومة جادة في مكافحة الفساد، وبرلمان قوي يواجه الانحرافات دون مواءمات سياسية ضيقة.