في الوقت الذي يتابع فيه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كافة التفاصيل المتعلقة بالفساد داخل البلاد، نجد أن التحدي الأكبر الذي يواجهه هو الفساد المستشري في قطاعات حساسة كالطاقة والكهرباء، حيث تتعامل الحكومة بشكل سلبي مع قضايا الفساد في هذا القطاع.
فمنذ الإعلان عن بدء حرب الدولة ضد الفساد، أصبح السؤال الأهم: هل هناك فعلاً إرادة حقيقية لمكافحة الفساد، أم أنها مجرد تصريحات إعلامية تهدف إلى تهدئة الشارع الغاضب؟
الأمر الذي يتضح بشكل جلي في قطاع الكهرباء، حيث الفساد أصبح جزءاً لا يتجزأ من سير العمل في الوزارة والشركة القابضة لكهرباء مصر.
لن يكون غريبًا على أي متابع أن يرى الممارسات الفاسدة تتسرب إلى مختلف أروقة قطاع الكهرباء، حيث التورط في صفقات مشبوهة، منح العقود بالمخالفة للقانون، ورشاوي تُدفع لتسهيل عمليات التعاقد لصالح شركات معينة.
في هذا الإطار تبرز شركة بجسكو الاستشارية التي تستحوذ على مشاريع كهرباء مصر بشكل حصري رغم تورطها في العديد من الملفات المشبوهة.
هي الشركة التي ظلت على مر السنوات الاستشارية الوحيدة في كافة مشاريع القطاع، ورغم تعاقب الأزمات والنكسات في القطاع، استمرت في الحصول على عقود ضخمة بطرق مشبوهة، مما يعكس حجم الفساد المتورط في تلك الملفات.
تأسست شركة بجسكو بمشاركة بين بكتيل الأمريكية ووزارة الكهرباء المصرية والبنك التجاري الدولي، ولكن وبعد فترة قصيرة انفصلت بكتيل عن الشراكة وباعت حصتها، لتظل الشركة تهيمن على استشارات مشاريع الكهرباء في مصر بشكل مستمر، مما يعكس تواطؤًا بين القيادات العليا في الوزارة والشركة.
ومن أبرز قضايا الفساد التي شابت أعمالها كان ما كشفته التحقيقات الدولية حول رشاوى دفعت من شركة “ألستوم” الفرنسية إلى المسؤولين في قطاع الكهرباء المصري لتمرير صفقات مشبوهة بمليارات الدولارات،
حيث أدين عاصم الجوهري المدير التنفيذي للشركة بالسجن لمدة 42 شهرًا في أمريكا وتغريمه بمبلغ 5 ملايين دولار، ولكن لم تتم محاكمة أي من المسؤولين المتورطين في تلك الرشاوى داخل مصر رغم علم الجميع بتفاصيل القضية.
يعتبر الفساد في شركة بجسكو امتدادًا لسياسات الفساد في وزارة الكهرباء، حيث يتم تمرير العقود بشكل غير قانوني لصالح الشركة التي يشوب أعمالها الكثير من التساؤلات.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك هو منح عقد بقيمة 630 مليون جنيه لمحطة كهرباء نويبع لشركة بجسكو، وهو العقد الذي كان يتم منحه رغم عدم وجود جدوى اقتصادية حقيقية للمشروع، مما أدى إلى إهدار الأموال العامة.
هذه الأموال كانت كفيلة بإحداث تطوير حقيقي في قطاع الكهرباء، لكن بدلاً من ذلك، تم إهدارها في مشاريع فاشلة على غرار محطة كهرباء نويبع التي لم تكن الأرض التي كان من المفترض أن تقام عليها المحطة صالحة لهذا الغرض، ومع ذلك أصر المسؤولون على تنفيذ المشروع حتى انتهى بتدمير ملايين الجنيهات دون فائدة.
واستمرت سلسلة من الفساد مع مشاريع أخرى مثل محطة كهرباء العين السخنة، حيث تم منح الأعمال الاستشارية بمبالغ ضخمة تجاوزت 160 مليون جنيه و35 مليون دولار أمريكي، بالإضافة إلى مشاريع توسعة محطات مثل دمياط والشباب التي تكلفت ملايين الجنيهات.
وُجهت إلى شركة بجسكو اتهامات بإجراء مناقصات غير قانونية لإرساء هذه المشاريع عليها، رغم أن معظم هذه المشاريع كانت في مناطق غير صالحة أو غير مجدية، مما يعكس حجم الفشل والفساد الذي يهيمن على هذه المؤسسة.
الأمر المثير للدهشة هو أن من أبرز القيادات المتورطة في الفساد داخل شركة بجسكو هم أبناء المسؤولين في وزارة الكهرباء، حيث تُمكن هذه الوجوه المتورطة من تمرير المناقصات بشكل غير قانوني دون رادع.
كما أن شركة بجسكو لم تقتصر على العمل داخل مصر، بل طالت أعمالها فساد قطاع الكهرباء إلى العراق وليبيا، مما يثير علامات استفهام حول حجم المصالح الخاصة التي يتم تمريرها عبر هذه المشاريع.
ولم تقتصر فساد هذه الشركة على مشاريع الكهرباء المحلية فقط، بل امتدت إلى مشاريع خارجية حيث تم التعاقد مع وزارة الكهرباء العراقية على ثلاثة عقود لأعمال استشارية لمشاريع الكهرباء هناك بقيمة 47 مليون دولار، كما تم التعاقد مع ليبيين في مشاريع متعلقة بقطاع الكهرباء في ليبيا.
في الوقت الذي كان من المفترض أن يتم فيه الاهتمام بمشاريع محلية وتطويرها، كانت وزارة الكهرباء المصرية تتعاون مع الخارج وتحقق أرباحًا غير مشروعة على حساب المواطن المصري.
أما الوضع في مصر، فيظل كارثيًا، حيث لا تزال محطات الكهرباء تعاني من أعطال جسيمة ولا تعمل بكامل طاقتها، مما ينعكس على زيادة انقطاع التيار الكهربائي بشكل مستمر.
في الوقت الذي تشهد فيه دول مثل السعودية وإيران زيادة ضخمة في قدرات التوليد لتصل إلى 55 ألف ميجاوات في السعودية و64 ألف ميجاوات في إيران، تظل قدرة التوليد في مصر نصف القدرة التصميمية، ما يثبت فشل سياسات الحكومة في هذا القطاع الاستراتيجي.
إن الإجراءات اللازمة لتغيير هذه الوضعية واضحة، ولابد من اتخاذ قرار حاسم للتعامل مع ملفات الفساد من دون مجاملة أو تسويف.
الحلول تكمن في التحقيق مع المسؤولين المتورطين في رشاوى ألستوم، ومراجعة حساباتهم البنكية، ومحاسبتهم على الأموال التي تم نهبها من خزينة الدولة.
لا مجال للمساومة مع الفساد الذي أصبح يعصف بكل مفاصل الدولة المصرية. والأمل في أن يكون هذا التوجه بداية لتغيير حقيقي ينقذ قطاع الكهرباء ويعيد الأمل للمواطن المصري.