منذ أن تم الإعلان عن مشروع محطة بنبان للطاقة الشمسية في مصر، كانت الآمال معقودة على أن يكون هذا المشروع نقطة انطلاق نحو تحول كبير في قطاع الطاقة في البلاد.
كان من المفترض أن يسهم هذا المشروع في تعزيز إنتاج الطاقة النظيفة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، بالإضافة إلى تعزيز الاقتصاد المصري من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية وتوفير فرص العمل.
إلا أن الواقع المؤلم أصبح مغايرًا تمامًا لهذه التوقعات، ليكشف عن فساد مستشري داخل الشركة القابضة لكهرباء مصر ووزارة الكهرباء، إضافة إلى تقاعس الحكومة المصرية عن التعامل مع هذه الأزمة بشكل جاد مما جعل المشروع يرهق كاهل الاقتصاد المصري لعقود طويلة.
محطة بنبان: عبء طويل الأمد على الاقتصاد
يُعد مشروع محطة بنبان للطاقة الشمسية أحد أكبر المشاريع في مجال الطاقة المتجددة في مصر والعالم. ولكن، لم يكن هذا المشروع كما يُروج له، بل تحول إلى عبء اقتصادي طويل الأمد بسبب العقود الموقعة، التي تمتد حتى عام 2042، والتي جعلت الحكومة المصرية، بكل مؤسساتها، رهينة لتقلبات سوق العملات العالمية.
فالعقود الموقعة بين الحكومة المصرية والمستثمرين في مشروع بنبان كانت بالدولار الأمريكي، ما يعني أن زيادة سعر الدولار أمام الجنيه المصري يعني زيادة في تكلفة شراء الكهرباء المنتجة من هذه المحطة.
وهذا ما حدث بالفعل؛ حيث ارتفعت تكلفة شراء الكهرباء بشكل كبير، مما يزيد من خسائر وزارة الكهرباء، التي تتحمل الفرق بين سعر شراء الكهرباء وسعر بيعها للمستهلكين.
الفجوة المالية المتزايدة
تواجه وزارة الكهرباء تحديًا حقيقيًا في ظل هذه العقود التي تفرض عليها تكاليف ضخمة. حاليًا، يقدر الفرق بين سعر شراء الكهرباء وسعر بيعها، خصوصًا للمستهلكين في القطاع المنزلي، بحوالي 5 مليار جنيه سنويًا، على الرغم من زيادة التعريفة الأخيرة.
ومن جهة أخرى، تزداد هذه الفجوة مع كل زيادة في سعر الدولار، مما يفاقم العجز في موازنة الوزارة ويزيد من ديونها. وهذه الديون لا تقتصر على وزارة الكهرباء فحسب، بل إنها تؤثر على الاقتصاد المصري ككل، الذي يعاني من التضخم وزيادة تكلفة الإنتاج في كافة القطاعات بسبب زيادة تكلفة الطاقة.
التعريفة المرتفعة وأثرها على المواطنين
إن التعريفة المرتفعة التي تم تحديدها لشراء الكهرباء من محطات بنبان، والتي تمتد على مدار 25 عامًا، لم تأخذ في الحسبان التحديات الاقتصادية التي قد تواجهها الدولة.
والنتيجة هي تحميل المواطن المصري عبئًا ماليًا كبيرًا، حيث يتم رفع أسعار الكهرباء على المستهلكين بشكل متكرر، ما يزيد من الأعباء على الأسر المصرية.
في الوقت ذاته، تظل أسعار الكهرباء للمستهلكين، في القطاع المنزلي خاصة، أقل من سعر شراء الكهرباء، مما يفاقم من أزمة وزارة الكهرباء.
الطاقة غير الفعالة وأثرها على الشبكة الكهربائية
من المشاكل الأخرى التي يواجهها مشروع بنبان هي قضية الطاقة غير الفعالة (kVARh). محطات الطاقة الشمسية، بطبيعتها، تنتج الطاقة الفعالة فقط (Active Power)، بينما تحتاج الشبكة الكهربائية إلى الطاقة غير الفعالة للحفاظ على استقرار الفولتية.
وهذا النقص في الطاقة غير الفعالة يؤدي إلى مشاكل في استقرار الشبكة الكهربائية، ويؤثر سلبًا على أداء المحطات التقليدية التي تتكبد تكلفة إضافية لتعويض هذا النقص.
وبالتالي، يزيد استهلاك الوقود في هذه المحطات، مما يرفع التكاليف التشغيلية وينتج عنه زيادة في انبعاثات الكربون، وهو ما يعارض الأهداف البيئية للمشروع.
الفساد المستشري في قطاع الكهرباء
محطة بنبان، التي كانت تُعتبر مشروعًا طموحًا، أصبحت اليوم مثالًا صارخًا على الفساد المستشري في قطاع الكهرباء. حيث لم تتم دراسة العقود بشكل دقيق، ولم يتم التفاوض بشكل يتماشى مع الواقع الاقتصادي لمصر.
بل على العكس، استمر المسؤولون في توقيع عقود غير منطقية، مما دفع الحكومة المصرية لتحمل التزامات غير قابلة للتراجع عنها، على الرغم من أنها ستؤدي إلى خسائر ضخمة على المدى الطويل. الفساد في الشركة القابضة لكهرباء مصر ووزارة الكهرباء لم يكن مجرد تقصير، بل كان عبارة عن قرارات تم اتخاذها لأغراض شخصية أو لصالح قلة من المستثمرين الذين استفادوا من هذه العقود.
مقارنة مع مشاريع عالمية: أين تذهب الأموال؟
عند مقارنة تكلفة محطة بنبان مع تكاليف بناء محطات طاقة شمسية عالمية، نجد أن تكلفة محطة بنبان تتجاوز المتوسط العالمي بشكل كبير.
على سبيل المثال، حديقة هاينان للطاقة الشمسية في الصين التي تبلغ طاقتها 2.2 جيجاوات كلفت 2.2 مليار دولار، بينما محطة بنبان التي تبلغ طاقتها 1.65 جيجاوات كلفت 4 مليار دولار، أي أن تكلفة إنشاء محطة بنبان كانت أكثر من ضعف المتوسط العالمي.
هذا يثير العديد من التساؤلات حول أين ذهبت هذه الأموال الزائدة، مما يفتح الباب أمام اتهامات بالفساد وسوء إدارة الأموال العامة.
مستقبل الطاقة الشمسية في مصر
رغم أن مصر تمتلك الإمكانيات الطبيعية لإنتاج طاقة شمسية كبيرة، إلا أن الوضع الحالي لا يبعث على التفاؤل. فإذا استمرت السياسات الحالية، فإن مصر ستظل رهينة لارتفاع أسعار الطاقة، مما يؤثر على قدرتها التنافسية في الأسواق المحلية والدولية.
ومع استمرار زيادة تكاليف الطاقة، ستظل الصناعات المصرية في حالة ضعف، مما يحد من قدرتها على المنافسة عالميًا ويزيد من الأعباء على المواطنين.
الحل في إعادة التفاوض مع المستثمرين
في ظل هذه الأوضاع الصعبة، قد يكون الحل الأمثل هو إعادة التفاوض مع المستثمرين للوصول إلى حلول عادلة تضمن حقوق الجميع وتخفف من العبء المالي على قطاع الكهرباء.
يجب أن يتم إعادة صياغة العقود بشكل يتماشى مع الأوضاع الاقتصادية الحالية ويأخذ في الاعتبار تقلبات أسعار الصرف في المستقبل.
كما يجب أن يتم تطوير سياسات جديدة لتحفيز الاستثمار في الطاقة المتجددة، مع التركيز على تشجيع الصناعة المحلية لإنتاج مكونات أنظمة الطاقة الشمسية، مما يقلل من الاعتماد على الاستيراد ويعزز الاقتصاد المحلي.
ضرورة البدء في مشاريع جديدة: طاقة مربحة لمصر
من جانب آخر، يحتاج قطاع الكهرباء المصري إلى استثمارات كبيرة في مشاريع جديدة للطاقة المتجددة. مشروع “رابط الطاقة بين مصر وأوروبا” يجب أن يُسرع الإعداد له، كما يمكن لمشروعات ضخمة مثل “AAPowerLink” في أستراليا أن تكون نموذجًا لمشاريع مماثلة في مصر.
إن فرص مصر في تصدير الكهرباء لا تزال ضخمة، بشرط أن يتم التعامل مع هذه المشاريع بعقلية اقتصادية ناضجة بعيدًا عن الفساد والإهمال الذي يحيط بالقطاع.
هل نتعلم من الدرس؟
إن مشروع بنبان، رغم كونه مثالًا للطاقة المتجددة، أصبح اليوم درسًا في كيفية الفشل والتخبط. فقد تحول حلم الطاقة النظيفة إلى عبء طويل الأمد على الاقتصاد المصري.
إذا لم تُتخذ خطوات جادة لتصحيح الأوضاع، فإن مصر ستظل تدفع ثمن هذه القرارات بعملة أجنبية حتى عام 2042، بينما تزداد خسائر الحكومة والمواطنين.
ويبقى السؤال الأهم: هل سنتعلم من هذا الدرس، أم أن محطة بنبان ستظل علامة فارقة في سلسلة الفرص الضائعة التي تحولت إلى أعباء لا تنتهي؟