أصبحت قيادات قطاع الكهرباء رمزًا للجمود والفساد، حيث تحكم أشخاص تجاوزوا مرحلة الكفاءة وأصبحوا مشغولين بجمع المزايا المالية من بدلات ورواتب ضخمة، فيما يعاني الشباب الموهوبون في القطاع من التهميش والإقصاء.
ورغم رواتب القيادات التي تتجاوز مئات الآلاف من الجنيهات شهريًا، بل وبعضهم يحصل على ما يفوق راتب رئيس الجمهورية، إلا أن القطاع نفسه يعاني من أزمات خانقة وارتفاع خسائره بشكل مستمر.
من الذي سيتحمل مسؤولية تحرير قطاع الكهرباء من قبضة قيادات عتيقة فشلت في إدارة هذا القطاع الحيوي؟ على مدى سنوات، سيطرت شريحة من القيادات المترهلة التي لم تعد قادرة على إحداث أي تغيير في مسار القطاع، بل زادوا من تعقيد الأمور، وبدلاً من دفع عجلة التقدم، فإنهم يديرون القطاع إلى الوراء في ظل غياب تام للإصلاحات.
قطاع الكهرباء في مصر يعاني من فساد عميق على مستويات عدة، من القيادات العليا وصولًا إلى مستوى إدارة العمليات اليومية، وهو ما تجلى في فضائح متعددة تم الكشف عنها مؤخرًا، تُظهر كيف تستمر عمليات التلاعب وبيع العدادات الكهربائية للمنشآت المخالفة مقابل الحصول على البراءة في قضايا مخالفات البناء.
على الرغم من تحذيرات من خطورة الوضع، وتهديدات وزير الكهرباء الدكتور محمود عصمت بإقالة المسؤولين في حال عدم اتخاذ إجراءات جادة لمعالجة الأزمات، إلا أن الأوضاع على الأرض لم تتغير. ففي اجتماع مؤخّر، أعلن الوزير عن ضرورة تقليص نسبة الفاقد من الكهرباء، والذي يمثل أكثر من 35% من إجمالي الاستهلاك، بتكلفة سنوية تتجاوز 30 مليار جنيه.
لكن بعيدًا عن هذا الإعلان، كشفت المستندات عن شبكة معقدة من الفساد داخل الشركة القابضة لكهرباء مصر، التي تستمر في تمرير العمليات المخالفة من خلال التنازل عن العدادات للمنازل والأبراج المخالفة دون محاسبة.
الفساد المستشري في الشركة القابضة
تفاصيل هذه العمليات تشير إلى وجود “بيزنس سري” داخل قطاع الكهرباء، حيث يتم بيع مقايسات العدادات لمالكي الأبراج المخالفة بهدف الحصول على براءة في قضايا مخالفات البناء، وهو ما يعد تلاعبًا صارخًا بالقانون.
الملاحظ أن هذه العمليات تتم تحت إشراف مباشر من قيادات الشركة القابضة لكهرباء مصر، والتي تتستر على المخالفات ولا تقدم المتورطين للمحاسبة.
بل وتستمر في تعيين المقربين لهم في المناصب القيادية. وفي هذا السياق، أظهرت المستندات أن عدداً كبيراً من المقايسات تمت دون مراعاة اللوائح، وتم بيع العدادات على الورق دون تنفيذ حقيقي على الأرض.
الكوتة الشهرية والتلاعب في الإيرادات
من جهة أخرى، كشفت المستندات عن ما يُسمى بـ”الكوتة الشهرية” التي يتم فرضها على شركات الكهرباء التسع، حيث يُطلب من كل إدارة هندسية توريد مبلغ 3.5 مليون جنيه شهريًا كحصة إلزامية.
هذه الأموال التي يتم تحصيلها من المواطنين، التي تصل في مجموعها إلى أكثر من 1764 مليون جنيه سنويًا من شركة واحدة، تُعتبر بمثابة إتاوة تُفرض على الجميع، في الوقت الذي يعاني فيه المواطنون من غلاء فواتير الكهرباء، ولا يحصد القطاع سوى خسائر فادحة بسبب ضعف الأداء الإداري والفساد المستشري.
التهرب من المساءلة وتعيين القيادات الفاشلة
وفي حين أن نسبة الفاقد في الكهرباء قد بلغت 35% وفقًا للتصريحات الرسمية، تؤكد المعلومات التي وصلت إلينا أن هذه النسبة قد تكون أعلى بكثير، إذ يصل الفاقد في بعض المناطق إلى 60%.
ورغم هذه الأرقام المقلقة، فإن المحاسبة لم تحدث، بل على العكس، تم ترقية بعض القيادات الفاشلة التي كان من المفترض إبعادها، مثل جابر دسوقي رئيس الشركة القابضة ونادية عبد العزيز قطري، التي تتولى المسؤولية عن الشئون المالية.
في المقابل، يُستمر في تعيين المقربين للمناصب القيادية، ويُدرج هؤلاء في مجالس الإدارة حتى بعد تقاعدهم، ما يضمن استمرار سيطرتهم على مفاصل القطاع. وهنا، يُثار تساؤل كبير حول من يتحمل المسؤولية في ظل هذه الممارسات؟
المخالفات في التنازل عن العدادات
أكدت المستندات التي تم كشفها أن هناك العديد من عمليات التلاعب في تركيب العدادات، حيث تم التنازل عن أكثر من 13 ألف عداد كهرباء في مخالفة للقوانين التي تحظر التنازل بين المواطنين. وقد تم التلاعب ببيانات العديد من العدادات، حيث تم تغيير العناوين والأسماء للحصول على العدادات بشكل غير قانوني.
نماذج من التلاعبات
على سبيل المثال، كشف عن تركيب 1600 عداد تم التلاعب في بيانات المقايسات الأصلية، من بينها حالة تم فيها تغيير بيانات المقايسة رقم “1089”، حيث تم استبدال بيانات المواطن الأصلي بمواطن آخر ليحمل كلاهما نفس الرقم.
كما تم التلاعب في عنوان المقايسة رقم “10851”، والتي كانت باسم سيد محمد حسنين، حيث تم تغيير العنوان لتصبح شارع شعبان بسطاوي بدلاً من العنوان الأصلي. في حالة أخرى تم التنازل عن 22 عدادًا من مقاس “6644” لشخص آخر بالمخالفة للقوانين.
التستر على المخالفات
أضاف التقرير أن القيادات العليا في الشركة القابضة لكهرباء مصر، وعلى رأسهم رئيس الشركة جابر دسوقي، ونائبه نادية قطري، قاموا بالتستر على هذه المخالفات، بل واصلوا ترقيتهم لمن تورطوا فيها. ولولا تدخل هيئة الرقابة الإدارية في بعض الشكاوى، لظل الوضع كما هو دون تحرك.
تعليمات من الوزير للتحقيق في المخالفات
في اجتماع أخير لوزير الكهرباء الدكتور محمود عصمت مع رؤساء شركات الكهرباء، تم تهديد القيادات بالإقالة إذا لم يتم اتخاذ إجراءات جذرية لتقليل الفاقد من التيار الكهربائي والتصدي للتهرب من الدفع وسرقات الكهرباء. وتعد هذه الإجراءات خطوة أولى للحد من الفساد المستشري داخل القطاع.
الرقابة الإدارية والتحقيقات المتأخرة
جاءت صحوة هيئة الرقابة الإدارية لتكشف عن بعض الملفات، ولكن التحقيقات التي بدأت لم تشمل سوى عدد قليل من الشركات. وكان من المتوقع أن تشمل جميع الشركات التابعة للشركة القابضة، خاصة في ظل حجم الفساد الذي طالما كان محاطًا بالتستر. على الرغم من وجود شكاوى منذ سنوات، لم يتم التحرك إلا بعد تدخل الجهات الرقابية، ما يثير الشكوك حول مدى الفساد المستشري في أعلى المستويات.
النموذج الفاشل في إدارة قطاع الكهرباء
لقد أصبح من الواضح أن استمرارية هذا النظام الفاشل في إدارة قطاع الكهرباء لن يؤدي إلا إلى تراجع أكبر في الخدمات وزيادة في الأزمات. فمراكز القوى داخل الشركة القابضة والشركات التابعة لها نجحت في تقزيم القطاع وتديرها كغنائم تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة.
ومن المعروف أن المناصب القيادية في القطاع يتم شغلها من قبل قيادات فاشلة يفتقرون إلى الكفاءة، وضرورة إصلاح القطاع وتغيير القيادات المتورطة في هذه العمليات، مع التركيز على إتاحة الفرصة للشباب والكوادر المؤهلة التي تم إقصاؤها من المناصب العليا.
كما دعا وزير الكهرباء إلى الابتعاد عن الحاشية التي تحيط به الآن، والتي تركز على مصالحها الخاصة، والعمل على إصلاح القطاع بشكل جذري من خلال اتخاذ قرارات شجاعة لتحسين الأداء ومحاسبة المسؤولين عن الفساد.