منذ بداية طرح فكرة تحويل الممارسات إلى عدادات كودية لمكافحة سرقات التيار الكهربائي في المبانى العشوائية والمخالفة، كانت النية واضحة لتوفير وسيلة قانونية تسهم في تقنين أوضاع المواطنين الذين يعانون من استهلاك الكهرباء بطرق غير مشروعة.
لكن ما حدث بعد ذلك كان بمثابة “ولادة متعثرة” لمشروع كان من المفترض أن يحقق أهدافًا وطنية، إلا أنه تحول إلى عبء على المواطن بسبب غياب التنسيق بين الجهات المعنية وتخبط القرارات التي أثرت بشكل مباشر على سير العمل في هذا المشروع.
فمنذ البداية، أصبح مشروع تركيب العدادات الكودية غير واضح المعالم، مغطى بغموض كبير يحيط بكافة مراحل التنفيذ، حيث كان المواطن يتلقى قرارات متناقضة من المسؤولين دون أن يحصل على إجابات شافية حول كيفية متابعة خطواته لتقنين وضعه.
أحد أكبر المشكلات التي طفت على السطح تمثلت في “الحيلة” التي تم استخدامها لجمع 30 مليار جنيه تحت مسمى “العدادات الكودية”، وهي أموال تم تحصيلها من المواطنين الذين سددوا ممارسات قانونية تحت ضغوط غير قانونية لتوفيق أوضاعهم.
إن تخبط التصريحات بين قيادات وزارة الكهرباء والشركة القابضة للكهرباء، حيث تم تضارب الآراء بين التصريحات التي تروج لتركيب العدادات الكودية لجميع المواطنين، سواء كان لديهم إيصال سداد الممارسة أو الضبطيات القضائية أو لا، ثم العودة لتحديد شروط صارمة تحصرها في وجود هذا الإيصال، كان له أثر بالغ على المصداقية والثقة بين المواطنين ووزارة الكهرباء. المواطن الذي كان يتمنى الحصول على العداد الكودي لتقنين وضعه أصبح في النهاية أسيرًا لتساؤلات لا حصر لها.
إحدى أهم التساؤلات التي لا يزال يطرحها المواطنون تتعلق بمصير الذين قدموا على المشروع واستكملوا جميع الإجراءات في وقت مبكر، لكن بسبب تعثرهم في سداد المقايسات الخاصة بتركيب العدادات، ظلوا في نفس وضعهم دون أي أمل في حل قريب.
وما يزيد الطين بلة هو تعرضهم لضغوط من قبل شركات توزيع الكهرباء، التي لا تمتلك عدادات كافية، حيث تشير التقارير إلى أن هذه الشركات تواجه نقصًا حادًا في العدادات يصل إلى 650 ألف عداد، ما يهدد تنفيذ المشروع في الوقت المحدد له.
تضارب التصريحات بين المسؤولين الحكوميين جعل العديد من المواطنين في حيرة من أمرهم. فبينما كان رئيس الشركة القابضة للكهرباء المهندس جابر دسوقي ونوابه يصرحون بأن العدادات الكودية ستُركب للمواطنين المخالفين بدون أي شروط تعسفية، فجأة ومع حلول الشهر الحالي، تم فرض شرط أساسي ألا وهو تقديم إيصال سداد الممارسة أو الضبطية القضائية، وهو ما لم يكن معلنًا مسبقًا.
وبينما تحاول وزارة الكهرباء تصحيح مسار المشروع والتخلص من نظام “الممارسة” الذي كلفها مليارات الجنيهات على مدار السنوات الماضية، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة نتيجة للتشابك بين قانون التصالح في مخالفات البناء وإجراءات تركيب العدادات الكودية. حيث لم يكن من الواضح كيف ستتمكن الوزارة من تنفيذ المشروع على أرض الواقع في ظل هذه التعقيدات القانونية.
كما أثار قرار مجلس الوزراء الأخير الذي يتضمن مهلة 3 أشهر لطلاء واجهات العقارات السكنية مشاعر الغضب والقلق بين المواطنين.
ففي الوقت الذي يتحدث فيه المسؤولون عن ضرورة استكمال إجراءات التصالح، فإن الحكومة لم تقدم لهم حلولًا حقيقية لتسهيل تنفيذ تلك الإجراءات، في حين كانت الضغوط تتزايد على المواطنين الذين يعانون من تعثرات اقتصادية كبيرة.
وما يدعو للاستفهام أن وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة لم تقم حتى الآن بإرسال شروط واضحة لشركات توزيع الكهرباء بشأن كيفية التعامل مع الطلبات الخاصة بالعدادات الكودية للمباني المخالفة، على الرغم من أن هذه الشروط تم اقتراحها منذ أكثر من 5 أشهر.
كما أن العديد من مسؤولي شركات الكهرباء، سواء في القطاعات الهندسية أو فرق الشبكات، أصبحوا في حالة من الارتباك والتخبط بسبب عدم معرفة الإجراءات الدقيقة التي سيتم اتخاذها بعد فتح باب التقديم على تركيب العدادات الكودية.
مفارقة أخرى تكمن في تصريحات وزير الكهرباء، التي أكد فيها أن العدادات الكودية ليست سوى وسيلة لضمان تحصيل قيمة استهلاك الكهرباء، وأن الهدف الأساسي من تنفيذ المشروع هو القضاء على الخسائر الناتجة عن نظام الممارسة الذي تم استبداله مؤخرًا.
لكن رغم ذلك، لم يتضح كيف ستتمكن الوزارة من تنفيذ هذا المشروع في ظل حالة من الفوضى وعدم التنسيق بين الأجهزة الحكومية المعنية، وخاصة وزارة التنمية المحلية، التي تطبق قانون التصالح في مخالفات البناء وتعيق عملية توصيل الكهرباء للمناطق المخالفة.
وفي ظل هذه الفوضى، كانت وزارة الكهرباء تأمل أن تتمكن من تنفيذ المشروع بسهولة، لكن فوجئت بأن القانون يعقد الأمور أكثر من المتوقع.
ويبدو أن الوزارة قد تجد نفسها مضطرة للعودة إلى العمل بنظام “الممارسة”، الذي اعتمدت عليه لسنوات في تحصيل الرسوم من المخالفين، حيث يجري تركيب العدادات الكودية بعد تسديد الممارسات، وهو ما يعني أن الوزارة قد تضطر مرة أخرى للاعتماد على أسلوب تحصيل الرسوم دون تحقيق الفائدة التي كان من المفترض أن تتحقق.
ما يعزز من حجم الأزمة هو الفشل في توفير العدد الكافي من الفنيين المطلوبين لتركيب العدادات، وهو ما يهدد بنقص القدرة على تنفيذ المشروع في الوقت المحدد، مما قد يؤدي إلى مزيد من التأخير وتعقيد الوضع.
هذه الأزمات تؤكد على أن وزارة الكهرباء وشركاتها التابعة لم تكن جاهزة لتنفيذ هذا المشروع بالشكل الذي كان ينبغي أن يكون عليه. ففي الوقت الذي كان من المفترض أن يوفر العدادات الكودية حلاً قانونيًا للمواطنين لتقنين أوضاعهم، يبدو أن المشروع تحول إلى “حيلة” لجمع الأموال من المواطنين، دون تقديم حلول حقيقية لهم.
وتبقى الأسئلة عالقة دون إجابة، ويبقى المواطن هو الضحية الوحيدة في هذا الصراع بين الوزارات، لا يعرف إلى أين يتجه بعد أن ضاع بين التصريحات المتناقضة والقرارات المتأخرة.