منذ أيام قليلة ترددت أنباء وتكهنات عن إمكانية خروج أحزاب أو قوى سياسية جديدة لدائرة الضوء، وفي هذا الصدد أعيد الحديث عن اتحاد القبائل العربية كقوى بازغة محتملة. هذه التكهنات بغض النظر عن مدى دقتها أو صحتها، فهي تحمل عديد الشجون عن أحوال الأحزاب والقوى السياسية في مصر، فكل المراقبين يكادوا يجمعوا على أن الأحزاب السياسية في مصر ليس بأفضل حال. فقياسا على الأحزاب السياسية المتعارف عليها في النظم السياسية المتمدينة، فإن حال الأحزاب المصرية لا ترقى بالكاد أن تصنف كجماعات ضغط، وتلك الجماعات القائمة في مصر لا ترقى بالكاد أن تصنف كجمعيات خيرية أو أهلية.
السؤال الذي يبدر إلى ذهن من يتحدث عن إمكانية تأسيس أحزاب أو قوى سياسية، هو ما هي -من الناحية الإحصائية- درجة التحزب بين مكونات القوى الشعبية المؤهلة للمشاركة في العمل الحزبي في مصر، وهي القوى المتمتعة بالحقوق المدنية والسياسية، وهي ذاتها المسجلة في قاعدة بيانات الرقم القومي اليوم، والمقدرة في انتخابات الرئاسة المصرية في ديسمبر 2023 بـ 67,032,438 نسمة؟ هذه القوى لا تعدوا حسب عديد المراقبين أن تكون 1% أي ما يقل عن مليون نسمة. هنا يكون السؤال التالي، هل تصلح تلك البيئة التي تعيش في استقلال واضح عن الأحزاب أن يؤسس بها أحزاب أو تبزغ فيها قوى سياسية جديدة!!!.
في مصر وعقب أحداث 25 يناير2011، أرتفع عدد الأحزاب السياسية من 24 حزب إلى ما يقرب من 100 حزب. السؤال الأخر هنا ماذا صنعت تلك الأحزاب خلال تلك الفترة؟ هل قويت على تحدى البنى التنظيمية الأكثر تماسكا وتنظيما، وقدمت قيادات بديلة، أو أنها قدمت سياسات بديلة، أو تشريعات ترتقي بها جميعا لمصاف القوى الفاعلة المرجوة في الدولة المصرية؟.
ما من شك أن حرية تأسيس الأحزاب السياسية هو واحد من أهم الأمور المرتبطة بطبيعة المجال العام، من حيث درجة انفتاحه. لكن يبقى السؤال هل هذا المؤشر مؤشرا موضوعيا، أم مؤشر شكلي يرتبط فقط بتأسيس التنظيمات الحزبية بغض النظر عن قوتها وعملها في الساحة السياسية، والذي يتحدد بأمور كثيرة منها شعبية تلك الأحزاب في الشارع. بعبارة أخرى، هل تكفي النشأة الورقية أو البيروقراطية لأي تنظيم كي يصبح حزبا، للتأكيد على حرية المجال العام في البلاد، وتأكيد أن الأحزاب هي الفاعل الرئيس لإدارة العملية السياسية المدنية بعيدا عن أي أطر غير مدنية…بالتأكيد لا يكفي مؤشر حرية نشأة الأحزاب أن يعبر عن شكل المجال العام في أي بلد.
حال العلاقة بين النظام الحاكم والأحزاب في مصر
لا يمكن لأي منصف إلا وأن يحصى أربعة اتجاهات سياسية في الشارع المصري اليوم، إذا ما وجد لهذا الشارع اتجاه بداية. الإتجاه الأول هو التيار الليبرالى والثاني اليسارى والثالث الوسط، وأخيرا التيار الديني. بالطبع تلك التيارات يبدو لأي مراقب موضوعي أن يضع حول المسميات أنفة الذكر عديد الملاحظات، لذلك يتحتم أن يأخذها القارئ بمأخذ الحذر والحيطة، مقارنة بما عليه الوضع من الناحية الإيديولوجية في النظم الحزبية العتيقة في أوروبا التي عرفت تلك العملية منذ سنوات طويلة، وعرفت تلك الأطر الفكرية.
بغض النظر عن المسميات، يصبح السؤال هو لماذا يوجد بمصر كل هذه الأحزاب السياسية؟ وطالما أن الأحزاب تنشأ للتعبير عن مواقف محددة وقضايا تختلف وفقا لها وفيما بينها، يصبح السؤال الأخر: هل بمصر 100 قضية مختلف عليها كي ينشأ لها بالمقابل 100 حزب سياسي كما هو حادث الآن؟
هناك العديد والعديد من الأسئلة الإستنكارية والإيحائية، والتي تبدو الإجابة عنها على ألسنة القراء جاهزة وصحيحة وبديهية. فالواقع يلقى الضوء على الحالة المذرية التي وصلت إليها الأحزاب والقوى السياسية، بسبب سياسة تلك الكيانات “المنظمة” وسياسة الدولة، فهذه الأخيرة مردت على أن تراقب أنشطة الأحزاب السياسية إلى الحد الذي يبدو للمرء أن الطرف المراقب (بفتح الراء) متهم دوما بالعمالة، وأن الطرف المراقب (بكسر القاف) هو من يملك صكوك الوطنية.
ماذا قدمت الأحزاب المصرية
يبقى سؤال مهم أخر، وهو من خلال التجارب الحزبية المختلفة التي مرت بها مصر عقب 23يوليو1952، وحتى اليوم، مرورا بإعلان التعددية الحزبية الثالثة في 11نوفمبر1976، ماذا تحقق من إنجاز على المستوى النظام السياسي فيما يتصل بالبيئة الحزبية؟ بمعنى هل من إنجاز يمكن أن ينسب وفقط للأبنية الحزبية في مصر من زاوية التحديث السياسي؟ بالطبع تبدو الإجابة معروفة، سواء كان المرء يتحدث عن تجربة الحزب الواحد أو التجربة التعددية. يكفي فقط أن نشير إلى حصاد الهشيم للتنظيم الحزبي القائد من هيئة التحرير وحتى مستقبل وطن مرورا بالاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي وحزب مصر والحزب الوطني الديمقراطي وحب مصر أو دعم مصر. وكلها أسماء لكيانات غلبت عليها الهيمنة الأمنية والإزعان لتلك الهيمنة، وكانت ذراع للسلطة لمجرد إخراج قرارات اتخذت خارجها، ولم تكن البته أداء لأغلبية حقيقية في البرلمان أو داعما لتشكيل حكومة منتخبة انتخابا حرا نزيها، ولم تكن أداة لتجنيد نخبوى لاختيار الرؤساء والوزراء والمحافظين وغيرهم، بل أنها كانت إطارا تعبويا يقوم بالحشد لكل ما يدعو إليه النظام الحاكم، حتى بعد وضع دستور2012 والذي منع تحزب رئيس الجمهورية في النظام السياسي القائم عقب أحداث 25يناير2011، وأحداث30يونيو2013.
ما من شك أن أي بناء حزبي جديد لا يجب أن يقوم على تعديل أو إصلاح الوضع الحزبي القائم، فهذا الوضع يحتاج إلى تغيير جذري. وهذا التغيير من المؤكد أنه سيتطلب أعباء على كل من الدولة والأبنية الحزبية.
ما العمل؟
فالدولة لا شك إذا ما سلمت النوايا مطالبة ببناء حزبي منزوع الرقابة الأمنية من الأحزاب، فقط على تلك الأبنية أن تعي أنها مراقبة فحسب بالدستور والقانون، كما أن إنها ملزمة بتشجيع الناس على الخلاص من ظاهرة الاستقلال، بمعنى العمل على تسييس الشارع، وبالتبعية الخلاص من حالة الخوف التي تنتاب المواطن من الانتماء للأحزاب والمشاركة في الأنشطة الحزبية المختلفة، ومن ثم تشجيع الناس للتعبير عن آرائهم بحرية في إطار الدستور والقانون، وخوض انتخابات داخل الأحزاب وتحت مظلتها، وكذلك تشجيع الأحزاب على القيام بأنشطة سياسية مختلفة، بما يدعم تواجدها في الشارع، وكذلك العمل على حفز الإندماجات الحزبية حتى نرى عدد أقل من العدد المربك المتواجد على الساحة اليوم. وأخيرا وليس أخيرا، تقرير نظام انتخابي للبرلمان يبرز وجود الأحزاب، والمقصود هنا نظام الأغلبية النسبية، بما يحقق العدالة والتمثيل الحر النزية، مع رفع كل الوسائل التي تمنع تغول القيادات الحزبية في وضع القوائم الانتخابية. وبالمقابل نبذ أساليب الأغلبية الانتخابية سواء بالطريق الفردي أو عبر القوائم المطلقة لما للأول من تشجيع للعصبيات والرشاوى والشحذ الطائفي، ولما للثاني من تكريس لأسلوب التزكية أو التعيين المقنع.
وعلى مستوى المجتمع الحزبي، فإن الكيانات الحزبية في هذا النظام الجديد عليها أن تعى كل الوعي أنها يغرر بها ويلعب بها. هنا نسأل: هل وعي مستقبل وطن وغيره أنه يتم استبداله اليوم بالقبائل العربية؟. خلاصة القول أن أي تنظيم يسعى للتأسيس بموجب الدستور والقانون عليه أن يعمل على التواجد في الشارع، والانتشار الجغرافي، وأن يحقق الديمقراطية من داخله سواء في اختيار السياسات الحزبية أو القيادات المختلفة. ومما لا شك فيه أن كافة تلك الأمور لن تتواجد إلا في إطار كيانات محوكمة حوكمة رشيدة، بعيدة كل البعد عن الفساد المالي والإداري الذي مردت عديد الكيانات الحزبية الراهنة على الغوص في أوحاله، وكذلك نبذ الإرتقاء لناصية الأحزاب لمجرد نيل الوجاهة.
ما من شك أن كافة تلك الخطوات ترتبط ارتباطا جوهريا بمناخ أكبر يتصل بفتح المجال العام على مصراعية، بتأسيس برلمان قوى على علاقة متوازنة توازنا حقيقيا مع كل من السلطتين التنفيذية والتشريعية، وإعلام شعبي غير مؤمم، وقضاء مستقل. وهذا كله أمر مهم في هذه الأيام التي نحتاج فيها لبروز قوى سياسية جديدة، خاصة ونحن مقبلون عام 2030 على انتخابات رئاسية، لن يكون الرئيس السيسي فيها موجودا على الساحة السياسية بحكم الدستور.