كشف الجهاز المركزي للمحاسبات في تقاريره الأخيرة عن حجم الفساد والإهدار في قطاع البترول والكهرباء في مصر، مشيراً إلى العديد من المخالفات التي طالت الشركات القابضة والوزارات الحكومية المختلفة.
فقد أظهرت التقارير التي نشرت تفاصيل حول 70 شركة تعمل في قطاع البترول، وأكثر من 20 شركة في قطاع الكهرباء، وجود فساد مالي وإداري جسيم تسبب في إهدار ملايين الدولارات، فضلاً عن التعيينات المحسوبية والمكافآت الباهظة التي يحصل عليها عدد من المسؤولين والمستشارين في هذه القطاعات، رغم الخسائر الفادحة التي تعاني منها بعض الشركات.
كما تطرق تقرير الجهاز إلى السياسات الخاطئة التي يتبعها المسؤولون في وزارة البترول والشركة القابضة لكهرباء مصر، بالإضافة إلى تقاعس الحكومة المصرية في محاربة هذه الممارسات، مما أدى إلى تدهور القطاعين وزيادة المديونيات على الدولة.
ومن أبرز ما ورد في التقرير المخالفات التي ارتكبتها شركات مثل “جاسكو”، “بوتوجاسكو”، “غازتك”، “إسترينكس”، و”صيانكو”، والتي حققت خسائر تصل إلى 77 مليون دولار في عام 2014، حيث كانت هذه الشركات تتلقى مبالغ ضخمة من المال العام على اعتبار أنها شركات استثمارية، لكنها فشلت في تحقيق أي عوائد اقتصادية.
القطاع البترولي: فساد وتفتيت للموارد
وفقا للتقرير، فإن التوسع المبالغ فيه في إنشاء الشركات داخل قطاع البترول لم يؤدِ إلى زيادة الإنتاج أو تحقيق أي تقدم حقيقي، بل أسهم في التفتيت والضعف المؤسسي.
ففي الوقت الذي تملك فيه دول مثل قطر وسعودية وإمارات شركات بترولية محدودة تقوم بتنظيم القطاع بكفاءة عالية، نجد في مصر أكثر من 70 شركة تعمل في نفس المجال دون تنسيق حقيقي، مما أدى إلى إهدار الأموال والموارد. وتستمر هذه الشركات في سحب أموال ضخمة من خزينة الدولة على الرغم من عدم قدرتها على تحقيق أي ربح.
على سبيل المثال، حققت شركة “جاسكو” خسائر ضخمة، حيث بلغ حجم الخسائر 5.6 مليون دولار منذ تأسيسها، وارتفعت إلى 77 مليون دولار في عام 2014، ومع ذلك استمرت في صرف مبالغ ضخمة للقيادات.
وبالنسبة لشركة “أسبك” في الإسكندرية، فقد سجلت خسائر تقدر بنحو 24 مليون جنيه في يونيو 2015. ورغم هذه الخسائر الفادحة، كانت سياسة الإدارة تتجه نحو تكبد تكاليف إضافية، مثل التعاقد مع مستشارين خارجيين، وصرف مبالغ طائلة للانتدابات والإعارات الداخلية بين الشركات.
تجاوزات في التعيينات والمكافآت
وكشف التقرير عن تجاوزات عديدة في مجال التعيينات داخل القطاعين، حيث يتم تعيين أقارب المسؤولين في وزارة البترول في المناصب العليا، وهو ما يعكس تفشي المحسوبية داخل هذه الشركات.
على سبيل المثال، تم تعيين ابنة وزير الأوقاف السابق، مختار جمعة، في شركة “ميدور” للبترول رغم أنها حاصلة على ليسانس آداب، وهو ما أثار استياء العديد من الخريجين الحاصلين على مؤهلات أكاديمية عالية كانوا في انتظار تعيينهم منذ سنوات.
وفي شركة “إنبي” للبترول، تم تعيين أبناء كبار المسؤولين مثل محمد هاني ضاحي، نجل وزير النقل الأسبق، شريف هاني ضاحي، في المناصب العليا في الشركة، كما شهدت شركة “بتروتريد” تعيين أبناء مسؤولين آخرين في المناصب العليا.
المخزون الراكد والهدر المالي
من بين المخالفات الخطيرة التي كشف عنها التقرير هي وجود مخزون راكد في العديد من الشركات التي تساهم فيها الدولة، حيث بلغ إجمالي المخزون الراكد في 14 شركة نحو 77 مليون دولار.
كما أشار التقرير إلى أن الشركات كانت تواصل جمع مبالغ ضخمة من المال العام على الرغم من عدم استغلال هذه الموارد بكفاءة.
إضافة إلى ذلك، أظهرت التقارير تجاوزات في الصرف على المكافآت والبدلات، حيث تم صرف أكثر من 95 مليون جنيه لعدد 690 عضوا في مجالس إدارة شركات البترول والكهرباء والتعدين.
وتشير التقارير إلى أن وزارة البترول كانت هي أكثر الوزارات استفادة من هذه المكافآت التي تقدر بنحو 84 مليون جنيه في نفس العام. وبينما كانت الشركات تعاني من خسائر كبيرة، كانت المكافآت والأرباح تتوزع بشكل غير مبرر على المسؤولين.
تعيينات مزدوجة ومستشارون يتقاضون ملايين
كما كشف التقرير عن أن عددًا من المستشارين في شركات قطاع البترول يتقاضون مبالغ ضخمة تتجاوز التوقعات، حيث يصل راتب بعض المستشارين إلى 100 ألف جنيه شهريًا.
وتبين من المستندات أن شقيق مدير مكتب وزير البترول كان يتقاضى نحو نصف مليون جنيه سنويًا من شركة “جاسكو” رغم أن هذا التعيين كان صورياً.
وفضحت المستندات كيفية حصول بعض الموظفين على مرتبين في وقت واحد، مثل الموظف شريف شوقي حسن الذي كان يتقاضى راتباً من قطاع البترول وحوافز من مجلس الوزراء في وقت واحد، وهو ما يعد إهدارًا صارخًا للمال العام.
التهديدات المستقبلية: الخطر على القطاعات الحيوية
تتفاقم الأزمات في قطاعي البترول والكهرباء في مصر، حيث تتواصل عمليات الفساد والهدر دون محاسبة حقيقية. لا يبدو أن هناك إرادة حقيقية من الحكومة المصرية لمحاربة هذه الأزمات، وهو ما يعرض مستقبل القطاعين للخطر.
وعلى الرغم من تحذيرات الجهاز المركزي للمحاسبات، فإن الجهات الحكومية لم تتخذ أي إجراءات فعالة لإصلاح هذه القطاعات، مما يفاقم الأوضاع ويزيد من معاناة الشعب المصري.
كما أن التقارير أظهرت أن بعض الشركات التابعة لوزارة البترول تواصل تقديم تسهيلات غير مبررة للشركاء الأجانب، مثل استرداد قيمة المخزون من قطع الغيار بعد 24 شهرًا فقط، مما يضعف قدرة الدولة على تحقيق عوائد حقيقية من هذه الاستثمارات.
وفي الوقت الذي يمر فيه قطاع الكهرباء بنفس الأزمات، تستمر المديونيات المتراكمة على شركات الكهرباء، التي تعاني أيضًا من تأخر في سداد مستحقات وزارة البترول.
ما يكشفه الجهاز المركزي للمحاسبات من تقارير مستمرة عن فساد وإهدار المال العام في قطاع البترول والكهرباء في مصر يعد جرس إنذار للمسؤولين في الحكومة المصرية.
فالفساد أصبح يهدد ليس فقط استقرار هذه القطاعات بل أيضًا الأمن الاقتصادي للدولة. من الضروري أن تتخذ الحكومة إجراءات عاجلة للحد من هذا الفساد المستشري وتحقيق الشفافية والمساءلة في هذه القطاعات الحيوية، وإلا ستظل هذه الشركات ترهق خزينة الدولة دون أن تقدم أي قيمة حقيقية للاقتصاد المصري.