تقاريرمصر

القضاء في مصر يواجه ضغوطًا غير مسبوقة والسلطة تهدد استقلاليته بشكل مستمر

يبدو أن القضاء في مصر يمر بفترة من أسوأ فتراته منذ عقود طويلة حيث يجد القضاة أنفسهم أمام تحديات غير مسبوقة تهدد استقلاليتهم وتعرضهم لضغوط شديدة من قبل السلطة الحاكمة التي تسعى لاستغلال القضاء لأغراضها الخاصة.

يشهد جهاز القضاء في مصر تطورات مأساوية، حيث تزداد التدخلات العسكرية في شؤونه بشكل لم يسبق له مثيل، فبعد فترة من التهديدات والصراعات التي واجهت العديد من الهيئات القضائية، جاء التحدي الأخير الذي لم يكن في الحسبان بالنسبة لقضاة مجلس الدولة.

القضاء في مصر أصبح أمام واقع مرير، بعد أن تلقى القضاة إخطارًا رسميًّا من جهاز مشروعات الخدمات الوطنية التابع للجيش، يطلب منهم إخلاء مقرات مجلس الدولة في كورنيش النيل بمنطقة الدقي، وكذلك القصر التاريخي الملاصق له والذي يعد من أقدم المعالم الخاصة بالمجلس.

هذا الطلب لم يكن مجرد إجراء روتيني وإنما كان ضمن خطة تهدف إلى نقل جميع محاكم المجلس إلى العاصمة الإدارية الجديدة.

وهو ما شكل صدمة غير متوقعة لأعضاء المجلس الذين فوجئوا بذلك الإجراء الذي لا يحمل أي اعتبار لمواقفهم السابقة التي كانت تؤكد استمرارهم في مقرهم الحالي مع بقاء بعض الدوائر في القاهرة. الحكومة لم تلتزم بالوعود السابقة ودفعت بالأمور إلى منحنى آخر أكثر تعقيدًا.

كانت الوعود التي تلقاها رئيس المجلس بشأن استمرارية العمل في المقر القائم من خلال الإبقاء على بعض الدوائر في المكان الذي افتتح عام 1994 مع بقاء القصر الملحق به قيد الاستخدام، حيث كان هذا يعد الحل الوسط.

إلا أن الحكومة المصرية تعود لتثبت مجددًا عدم مصداقيتها عندما أصدر جهاز الجيش قراره النهائي الذي يتضمن إخلاء المجلس والقصر بشكل كامل والانتقال الفوري إلى العاصمة الإدارية الجديدة، متجاهلاً تمامًا الحقوق المشروعة للقضاة في تحديد أماكن عملهم.

كما تجددت الأزمة في نادي قضاة مجلس الدولة بعد رفض رئيس النادي تسليم المقر الذي يعد بمثابة المنزل الاجتماعي الوحيد لقضاة المجلس.

المقر الذي أسس لخدمة القضاة وأسرهم وتوفير الخدمات الاجتماعية لهم، كان ولا يزال يعتبر ركنًا أساسيًّا لاستمرارية الحياة الاجتماعية للقضاة. ولكن الحكومة لم تتوان في وضع يدها على هذا المقر الذي يعد مصدر أمان للقضاة وعائلاتهم في وقت يتعرض فيه الكثير منهم لضغوط مالية واجتماعية شديدة.

رفض نادي مستشاري النيابة الإدارية أيضًا تسليم مقر النادي للجنة المشتركة بين جهاز مشروعات الخدمة الوطنية وجهاز حماية النيل، وهو ما يبرز التحدي المستمر من قبل القضاة أمام محاولات الدولة المتكررة للسيطرة على مقدراتهم.

نادي النيابة الإدارية يعتبر المركز الوحيد الذي يربط آلاف القضاة بأسرهم في مجال الخدمات الاجتماعية، لكن الحكومة لا تفرط في فرض سيطرتها ورفع يدها عن القضاة حتى في أبسط حقوقهم.

لكن هذه ليست الأزمة الوحيدة التي يعاني منها القضاة في مصر، إذ ظهرت أزمة جديدة مع قرار وزارة العدل بإحالة 48 قاضيًا للتحقيق بسبب تصريحاتهم عن الأوضاع المالية المتدهورة التي يعانون منها.

هؤلاء القضاة عبروا عن استيائهم من الأعباء التي يواجهونها في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد، وكذلك من انعدام الدعم المقدم لهم من الدولة.

ولكن بدلاً من الاستماع لمطالب القضاة والبحث عن حلول لتحسين أوضاعهم، قررت الحكومة تحويلهم إلى التحقيق بشكل تعسفي، في خطوة تؤكد نية السلطة في قمع أي صوت معارض أو نقد موجه لقراراتها.

القضاة الذين تم إحالتهم للتحقيق أعلنوا عن نيتهم في عقد جمعية عمومية داخل مقر نادي القضاة، دعوا خلالها إلى التصويت على قرارات تعليق العمل في المحاكم كوسيلة للاحتجاج على سياسة الحكومة تجاههم.

هذا التصعيد لم يكن إلا نتيجة لسياسات الدولة التي تنكر حقوق القضاة وتهدد استقلاليتهم. وتحولت القضية إلى صراع بين القضاة والحكومة في محاولات مستمرة لفرض قيود على حرية التعبير عن الرأي.

لا شك أن تقاعس الحكومة المصرية في التعامل مع القضايا التي تخص القضاة يعكس مستوى الفساد المستشري داخل مؤسسات الدولة.

الحكومة بدلًا من إصلاح الأوضاع المالية للقضاة وتحسين ظروفهم في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، اختارت نهجًا قمعيًا يعكس حقيقة توجهاتها في محاربة العدالة واستقلالية القضاء.

هذا الوضع لا يعكس إلا فسادًا متجذرًا في مؤسسات الدولة وغياب الرغبة في تحقيق العدالة الحقيقية أو تقديم أي حلول للمشاكل التي يعاني منها القضاة.

ما يحدث في مصر اليوم من تداعيات خطيرة على القضاء يمثل تحديًا حقيقيًّا لاستقلالية المؤسسات القضائية والحقوقية. لم تعد الدولة تكتفي بتقييد الحريات وتجاهل حقوق المواطنين فقط، بل وصلت إلى حد التدخل في شؤون القضاء بشكل يهدد تماسك النظام القضائي ذاته.

القضاة الذين يعتبرون خط الدفاع الأول ضد الفساد والظلم يواجهون الآن معركة من نوع آخر مع الحكومة التي تدير البلاد بمنطق القوة والتسلط دون مراعاة للقانون أو الحقوق.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو إلى متى ستظل الحكومة المصرية تتعامل مع القضاة والمواطنين بهذا الشكل؟ هل ستستمر في التضييق على المؤسسات القضائية في محاولاتها لضمان سيطرتها على كل مفاصل الدولة؟

وماذا عن الدور الذي يجب أن يلعبه المجتمع المدني في مواجهة هذه السياسات الاستبدادية التي تفرضها الحكومة؟ إن ما يحدث اليوم هو دليل صارخ على حجم الفساد المتغلغل داخل النظام المصري، وهو بمثابة تحذير لكل من يعتقد أن القضاء يمكن أن يظل بعيدًا عن التأثيرات السياسية.

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى