ربما لا يعرف الكثيرون ما يسمى “رقصة النحلة”، التي كتب عنها بعض الرحالة الذين زاروا مصر في القرن التاسع عشر.
هي رقصة احترفتها الغواني وفتيات الليل، وكانت الراقصة تبدأ فيها بافتراض أن نحلة دخلت تحت ملابسها، وأنها تقرصها في مناطق متعددة من جسدها، وهي تتلوي وتتأوه، وتخلع ملابسها قطعة قطعة حتى تصبح عارية تمامًا.
أوضاع مصر في القرن الثامن والتاسع عشر
وكانت أشهر الراقصات في ذلك الزمن هي الراقصة اللوذعية “كوجوك” ذات الأصول التركية أو السورية، وقد كان بيت المتعة الخاص بها في أسيوط (بعد أن أمر الخديوي عباس بإغلاق كل بيوت البغاء في القاهرة، انتقلت إلى مدن بل وبعض قرى الصعيد).
وقد كتب عن هذه الراقصة الأديب الفرنسي الشهير جوستاف فلوبير صاحب الرواية الشهيرة (مدام بوفاري)، الذي التقاها أثناء رحلته لمصر عام 1849 وذلك في كتابه عن مشاهداته في مصر والذي كان عبارة عن رسائل ارسلها لأمه وبعض أصدقائه في فرنسا.
وقد كشفت سطوره عن اللقاءات الحميمية مع تلك الراقصة (وغيرها)، تلك الرؤية الاستشراقية المشوهة عن بلاد وشعوب الشرق، وكذلك المرض النفسي الذي كان يعاني منه الكاتب، وهي موضوعات تناولها إدوارد سعيد في كتابه العظيم عن الاستشراق، وكذلك جان بول سارتر في رؤيته النقدية لأدب فلوبير.
ولقد وجدت مؤخرًا دفترًا قديمًا في صندوق به بعض أوراق قديمة أثناء خدمتي في أمريكا اللاتينية، والدفتر يحمل تاريخ 1984، وتحمل صفحاته تعليقات وخواطر مختلفة، بعضها حول كتب كنت أقرأها في تلك السنة، ومن بين الموضوعات التي كتبت عنها كان تعليق على كتاب حول ما كتبه الأديب الفرنسي الشهير جوستاف فلوبير عن زيارته إلى مصر نهاية عام 1849 وحتى مايو 1850.
ورغم أنني كنت من المعجبين بالأديب الفرنسي، وقرأت أغلب أعماله التي ترجمت للعربية وأبرزها مدام بوفاري التي استشهدت بها في أحد مقالاتي العاطفية زمن الصبا، إلا أنني صدمت مما كتبه عن مصر سواء في رسائله إلى أمه وأصدقائه أو في يومياته، فقد نقل صورة كئيبة عن شعب خامل وأوضاع اجتماعية مهينة، منها مثلًا أن الخديوي عباس ألغى بعد تنصيبه البغاء في القاهرة، فانتقل البغاء إلى الصعيد وانتشر لدرجة أن وصف فلوبير لزيارته إلى جنوب مصر امتلأت بالممارسات الجنسية التي قام بها تقريبًا في كل محافظة مر عليها، فضلًا عن صور تجارة العبيد الكئيبة التي كانت تصل بشكل منتظم من دارفور، ولها مناطق تجمع مختلفة أبرزها أسيوط.
لقد كتبت تعليقا هاجمت فيه فلوبير بشدة، مؤكدًا أنه لم يكن سوى ممثل للظاهرة الاستعمارية التي لم تكن ترى في الشرق (الأورينت) إلا مقاصدًا للإستغلال والنهب والنصب والمتع المحرمة.
ورغم أنني قرأت كتب رحالة آخرين لم تقل قسوة على أوضاع مصر في القرن الثامن والتاسع عشر، إلا أن غضبي من الأديب الفرنسي كان أشد، ربما لأنني كنت – مثل غيري – متأثرًا بالثقافة الفرنسية، وقادة الفكر الثوري الفرنسي، وربما لأنني في شبابي المبكر تأثرت للغاية بأدب فلوبير، وخاصة في رائعته “مدام بوفاري”، بحيث لم أكن أتخيل أن كاتبًا رومانسيًا مثله، يتجاهل طيبة ووداعة المصريين الذين كانوا يتسابقون لخدمته، كي ينظر فقط إلى النصف الخالي من الكوب.
أما بعد .. ترى كم ” كوجوك ” لا تزال ترقص النحلة في الشرق الأوسط؟.