في عصر تصفية الشركات الكبرى، وفي ظل موجات من الخصخصة التي تصيب قطاعات متعددة من الاقتصاد المصري، يبرز ملف “محطات الكهرباء” كأحد أكبر الأمثلة على الفساد المالي والإداري، وما يترتب عليه من تداعيات سلبية على المواطن المصري.
يسلط موقع “أخبار الغد” الضوء على الفساد المستشري في صفقات الخصخصة، لاسيما في قطاع الكهرباء، التي نمت منذ عام 2015 وتزايدت بشكل غير مسبوق في الأعوام الأخيرة، وصولاً إلى محطات الكهرباء الكبرى مثل “محطة بني سويف” التي أصبحت واحدة من القصص المأساوية التي تعكس فساد النظام المصري.
أزمة الديون وخصخصة محطات الكهرباء
بداية، يمكننا تحديد السبب الرئيسي وراء خصخصة محطات الكهرباء في مصر في العقد الأخير وهو الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي عصفت بالبلاد، وزيادة الديون الخارجية بنسبة تفوق الـ 280% خلال العقد الأخير.
حيث كانت الحاجة إلى تخفيف هذه الديون سبباً رئيسياً وراء بيع بعض الأصول الاستراتيجية، مثل محطات الكهرباء، التي تُعد واحدة من دعائم الاقتصاد المصري.
وفي هذا السياق، تُعد محطة كهرباء بني سويف واحدة من أبرز القضايا التي تشهد مفاوضات عسيرة بشأن بيعها.
تكلفة محطة بني سويف ومفاوضات القروض
منذ العام 2015، تم توقيع اتفاقات لتمويل ثلاث محطات كهرباء رئيسية في مصر: بني سويف، البرلس، والعاصمة الإدارية، بمبلغ إجمالي قدره 3.5 مليار يورو، عبر 17 بنكاً عالمياً.
ورغم أن تفاصيل التمويل لمحطة بني سويف كانت غامضة، إلا أن الرئيس المصري قد أعلن في إحدى تصريحاته أن تكلفة بناء المحطة بلغت 2 مليار يورو، معتمدة بشكل أساسي على القروض الأجنبية التي تغطي 77% من التكلفة، بينما تم تمويل 23% فقط من خلال مصادر محلية.
بدأت الحكومة المصرية في سداد القروض المترتبة على هذه المشاريع منذ عام 2019، ولا تزال تواصل سداد الأقساط حتى الآن دون أي تعثر، رغم أن الحكومة تواجه صعوبة في التعامل مع ارتفاع قيمة الدولار مقابل الجنيه المصري، وهو ما دفعها للتفكير في بيع المحطة.
التحديات المستقبلية بعد الخصخصة
من المفترض أن تؤدي خصخصة محطة بني سويف إلى تخفيف الأعباء المالية المترتبة على سداد القروض، حيث يتوقع أن يساهم المشتري في تسديد باقي المديونية.
ولكن، يُعد الأمر معقداً بسبب اعتراض البنوك الألمانية على أسعار الفائدة، إذ تطالب بزيادة الفائدة على القروض بما يتناسب مع التغيير في طبيعة المشروع من تنموي إلى استثماري بعد الخصخصة.
بالرغم من أن الحكومة أكدت أن الخصخصة قد تستغرق وقتاً طويلاً في إتمامها، إلا أن الشكوك تحيط بتفاصيل الصفقة، نظراً لما يكتنفها من غموض حول إجراءات البيع، بينما يتولى صندوق مصر السيادي طرح حصة من المحطة للمستثمرين.
تأثير الخصخصة على قطاع الكهرباء
عند تأسيس محطة بني سويف، تم الترويج لها على أنها نموذج متقدم لتكنولوجيا توليد الكهرباء، مما يتيح للدولة توفير الغاز الطبيعي في عملية الإنتاج.
إلا أنه مع تحول المحطة إلى القطاع الخاص، ستواجه منافسة شديدة من محطات الكهرباء الحكومية، التي تُنتج الكهرباء بتكلفة أعلى.
ففي الوقت الذي توفر فيه محطة بني سويف كهرباء بتكلفة أقل من المحطات التابعة لوزارة الكهرباء، فإن الحكومة الحالية تسعى لتشغيل المحطات القديمة المتوقفة عن العمل، رغم الحاجة الكبيرة إلى صيانة المحطات التي تم تكهين بعضها، ما يؤدي إلى تفاقم أزمة الطاقة في مصر.
قانون الكهرباء الجديد ودوره في خصخصة القطاع
قانون الكهرباء الجديد الذي تم إقراره في 2015، يسهم بشكل كبير في التمهيد لخصخصة القطاع من خلال إنشاء سوق تنافسية للطاقة في مصر.
ويضع القانون “شركة نقل الكهرباء” ككيان محايد، مما يتيح فرصاً للمستثمرين المحليين والدوليين للاستثمار في إنتاج الكهرباء.
ومع تطبيق هذا القانون، تزداد المنافسة بين محطات الكهرباء الحكومية والقطاع الخاص، مما يعكس تحديات كبيرة على مستوى تكلفة الكهرباء في السوق المصري.
فساد سياسات الخصخصة والمخاطر الاقتصادية
بينما تتصاعد صفقات الخصخصة في قطاع الكهرباء، تثار تساؤلات حول مدى تأثير هذه السياسات على الاقتصاد الوطني. مع بيع المحطات الكبرى مثل بني سويف وغيرها من المحطات المتخصصة في إنتاج الطاقة الشمسية والرياح، يبدو أن مصر تسير في اتجاه فقدان السيطرة على بعض من أهم مصادر الطاقة لديها لصالح دول الخليج، مثل السعودية والإمارات، التي أصبحت لاعبين رئيسيين في السوق المصري.
في الواقع، يثير البعض القلق بشأن إتمام صفقات خصخصة محطات الطاقة مثل “محطة رياح جبل الزيت” التي تم بيعها لمستثمرين خليجيين، وهو ما يراه العديد من الاقتصاديين تهديداً لسيادة مصر على مواردها الطبيعية.
صفقات الطاقة مع الخليج
بالإضافة إلى محطات الكهرباء التي يتم خصخصتها، تم توقيع العديد من الاتفاقيات مع دول خليجية مثل الإمارات والسعودية لتطوير مشاريع للطاقة المتجددة.
على سبيل المثال، تم تطوير مشروع محطة كهرباء رياح بخليج السويس بقدرة 200 ميجاوات، والعديد من مشروعات الطاقة الشمسية في صعيد مصر.
لكن يبقى التساؤل الأهم حول شروط هذه الصفقات، حيث تتيح لمستثمرين خليجيين حق الانتفاع للمشاريع لمدة 25 عاماً، ما يعني أن الحكومة المصرية ملزمة بشراء الكهرباء من هذه المحطات بأسعار تتراوح بين 8.4 و14.3 سنتاً أمريكياً للكيلوواط/ساعة، رغم أن تكلفة الإنتاج الفعلية لا تتعدى 1.6 سنت، مما يعكس هدرًا اقتصاديًا ويزيد الأعباء على المواطن المصري.
التأثير الاجتماعي والاقتصادي للخصخصة
أصبحت الخصخصة في مصر أحد الأسباب الرئيسية لزيادة معدلات التضخم والفقر، فضلاً عن تآكل الطبقة الوسطى. فبينما تزداد الأسعار وتصبح الخدمات الأساسية في متناول فئة قليلة من المواطنين، يواجه المواطن العادي المزيد من الصعوبات نتيجة ارتفاع أسعار الكهرباء.
وبحسب الخبراء الاقتصاديين، فإن سياسة الخصخصة التي تنتهجها الحكومة تأتي استجابة لمتطلبات صندوق النقد الدولي، وهو ما يعمق التبعية الاقتصادية ويزيد من هيمنة الشركات الأجنبية على الاقتصاد المصري، بما يحد من قدرة الدولة على اتخاذ قرارات سيادية.
الاستنتاجات: خصخصة الكهرباء في مصر .. بين الفساد والمخاطر المستقبلية
يبدو أن خصخصة قطاع الكهرباء في مصر هي عملية موجهة بالأساس نحو سداد الديون الطائلة التي أثقلت كاهل الدولة، ولكنها في ذات الوقت تفتح الباب أمام مشاكل اقتصادية واجتماعية أكبر.
قد تُسهم هذه الخصخصة في تحسين الأداء الاقتصادي على المدى القصير، لكنها على المدى البعيد ستؤدي إلى زيادة الفجوة الاجتماعية وتفشي الفساد داخل القطاع، في ظل غياب الشفافية والتخبط في اتخاذ القرارات.