مقالات ورأى

د.ناجي عبد الرحيم يكتب: إما نهضة إنسانية شاملة أو حرب عالمية ثالثة

العالم اليوم كجسدٍ منهكٍ على فراش المرض، أنهكته جروح الحروب ونزيف الظلم الذي لا يتوقف؛ تتقاسمه أيادٍ تحمل سهام المصالح، بينما الروح تكاد تختنق تحت وطأة الألم، والضمير يصارع بين الحياة والموت؛ هو الشرق الأوسط، قلبه مصر التي تنبض بالحياة رغم الأوجاع، وروحه فلسطين التي تأبى الانكسار والانحسار رغم القيود والاحتلال، وضميره لبنان الحي الجريح، الذي ينادي في صمت العالم ألا يسقط إنسانيته بالمشاهدة أو بحكم محكمة.

على صدى هذه الصرخات، تبدو النهضة الإنسانية الشاملة إنعاشًا لقلب الإنسانية وروحها وضميرها؛ ليست مجرد مشروع حضاري، بل دعوة لإحياء الإنسان واستعادة قيم الرحمة والحق والعدالة والإحسان؛ وصياغة مستقبل لا يتكرر فيه هذا الخراب؛ فهي بحق دعوة تحمل في طياتها أملًا يتجاوز الأزمات، وعزمًا لا يعرف التراجع أمام معاناة أصبحت قدرًا يُثقل البشرية جمعاء.

جوهر النهضة… إعادة تعريف الإنسان

لا نهضة دون إعادة تعريف الإنسان، صاحب الحق في الحماية والحياة؛ فهو المحور الذي تقوم عليه أي نهضة حضارية؛ ينهض من رحم الأزمات التي تعصف بالعالم اليوم، ويظهر باحثًا عن الهوية بين ضغوط الاستهلاك والمادية العالمية مع ضياع القيم الأخلاقية، التي جعلت العالم يجعل الإبادة عادة ويراقبها بشغف لاستزادة؛ وهو ما يوجب إعادة تعريف الإنسان وصياغة دوره الحضاري الفاعل، القادر على صناعة التغيير، والمؤمن بأن مستقبله لا يُصنع إلا إذا تجاوز فرديته ليصبح جزءًا من مجتمع يعمل للحق والعدل والحرية والحياة والخير للجميع، في الشرق والغرب والشمال والجنوب من الكون بقاراته السبع؛ فإعادة تعريف الإنسان تبدأ من إدراكه لهويته ككائن متكامل يحمل رسالة تتجاوز حدوده الشخصية إلى المجتمع والكون.

بعد إعادة التعريف، تكون المسؤولية تجاه الإنسانية والأجيال الحالية والقادمة؛ فالإنسان الذي لا يحمل في قلبه رؤية للأجيال القادمة هو أشبه بمن يتعاطى الحاضر ويتغاضى عن مسؤوليته المستقبلية في مواجهة الأزمات وصناعة الإنجازات العالمية؛ لا مستجيبًا للأزمات وعبئًا على الإدراك بأن الحق فوق القوة، وأن الأرض عرض وجذور وهوية، والحياة فيها مسار دين ودعوة؛ دين بمنهجيته يعيش، ودعوة بها في الدروب يسير، بفكر قوامه الحفاظ على الهوية والقيم، ومنهجه التغيير والتجديد، ونهجه الإصلاح الفردي والمجتمعي والمؤسسي، لإدراك حقيقة الوجود وكل كائن موجود.

فقه النهضة..الإنسان أولًا

فقه الإنسان والإنسانية هو مفتاح الإصلاح والصلاح وبداية النهضة الشاملة؛ مدخلها فقه الذات لا الملذات، والوعي بالعلم والعمل، وإدراك مسؤولياته كعضو في مجتمع أكبر؛ قادر على تحقيق توازن بين طموحاته الشخصية ومسؤولياته المجتمعية، وفي مقدمتها مؤازرة أصحاب الحق في أقصى وأدنى الأرض، كما في فلسطين؛ حيث الإنسان الذي يدرك قيمة النضال وصناعة القوة من الآلام، بوعي وقدرة على الصمود أمام الضغوط الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية والعالمية؛ ويمتد النضال ليطال الجوار في لبنان، فتكون الإصابة لقيم الإنسانية والحياة السلمية، التي توجب مراجعة منظومة القيم الإنسانية العالمية كأساس للتعايش.

مراجعة منظومة القيم الإنسانية العالمي (الفردية والمؤسسية والمجتمعية والأممية )

إن مراجعة منظومة القيم الإنسانية هي قوة جامعة وأساس للتعايش؛ تجعلنا نعيد تعريف الإنسانية لنؤكد على أنها الخيط الذي يربط بين البشر، مهما اختلفت مشاربهم وثقافاتهم ودياناتهم؛ فالأصل أن الكل تجمعه القيم الإنسانية المشتركة، وفي مقدمتها الحق والعدالة والرحمة والتعاون؛ وهي التي تصنع عالمًا لا تُحكم فيه العلاقات بالصراع على الأرض والموارد والممتلكات، بل هو العالم الذي يفقه الإنسانية وقيمها؛ لتكون منطلقًا للعلاقات بين الأفراد والشعوب في كافة أرجاء الأرض، بنظام عالمي متوازن متنافس لا متناحر.

لكننا اليوم أمام نظام عالمي يقوم على التنازع والتفكك والتربص والاحتكار والاحتلال؛ وهو ما يترك أثرًا مدمرًا على المجتمعات بتصنيفها العالمي الأول والثالث، ليكون الثاني إما فجوة سقوط أو قفزة صعود؛ وهو ما يجعل العالم أقرب إلى إما انفجار بحرب أو نهضة إنسانية يسطرها نظام جديد قائم على الحق والعدالة والشراكة في المستقبل والمصير؛ حيث تُحترم حقوق الشعوب وتُبنى العلاقات الدولية على أساس التفاهم والحوار بدلًا من الاستغلال والاستعلاء والصراع.

استدلال.. نهضتنا الإنسانية من الشرق الأوسط تنظلق

فلسطين الروح التي تأبى الاستسلام؛ منذ عام 1948 وهي تعيش واحدة من أطول المآسي الإنسانية في التاريخ الحديث؛ استشهد أكثر من مئة ألف فلسطيني، فيما يعيش 6.56 مليون لاجئ في الشتات؛ وزاد عدد الشهداء إلى أكثر من اثنين وعشرين ألفًا في غزة منذ أكتوبر 2023، بينهم تسعة آلاف طفل وستة آلاف وأربعمئة وخمسون امرأة؛ ونزح أكثر من 1.9 مليون إنسان، وأما خسائرها الاقتصادية فقد تجاوزت ستة عشر مليار دولار، مع انهيار شبه كامل للبنية التحتية؛ لتجسد اختبارًا حقيقيًا للإنسانية؛ فهي ليست مجرد قضية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، بل هي قيم الحق والعدالة التشريعية.

مصر، ذلك القلب المثقل بأعباء لا حصر لها، حيث تتشابك الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مشهد معقد، فإنها تواجه تحديات هائلة تتجاوز حدود التحمل؛ بدأت بثورة ألهبت الآمال، ثم انقلاب أضاف أثقالًا جديدة على كاهل الأمة؛ انفلات اقتصادي جعل الدين الخارجي يتجاوز 165 مليار دولار، بينما التضخم يلتهم أقوات الأسر بلا هوادة، مع ارتفاع غير مسبوق في أسعار الغذاء والدواء، حتى تخطى الفقر حاجز الـ30% من السكان، ومصادرة المملتكات ، وبيع للأصول والأراضي والمطارات؛ لم يقف الأمر عند ذلك، بل شهدت البلاد اعتقال أكثر من 60,000 شخص من نخبة المجتمع، بين وزراء وبرلمانيين وخبراء وأساتذة جامعات وأطباء ومهندسين ومحامين وصحافيين، فضلًا عن الملاحقين والمختفين قسرًا والمهجرين قسرًا؛ ومع كل هذه المحن، يظل الإنسان المصري صامدًا، يحمل على كتفيه إرثًا من التحدي، باحثًا عن أمل في مشروع يعيد بناء الوطن والإنسان، ليعود كل مواطن ومقيم إلى حياة كريمة تليق به.

أما لبنان، ذلك الضمير الحي الذي يئن لكنه يأبى الموت، فإنه يشهد صمودًا يتحدى أعتى الأزمات؛ فقد كان يومًا رمزًا للتنوع الثقافي والثراء الحضاري، لكنه اليوم يخوض معركة البقاء في ظل أزمة اقتصادية وسياسية خانقة ضربت البلاد منذ عام 2020؛ عملته الوطنية فقدت أكثر من 90% من قيمتها، وارتفعت معدلات الفقر إلى مستويات قياسية بلغت 82%؛ ثم جاء انفجار مرفأ بيروت ليكون فصلًا جديدًا في كتاب المأساة، حيث دُمر المرفأ، وسقط أكثر من 200 قتيل و6,500 جريح، بينما تجاوزت الخسائر الاقتصادية 84 مليار دولار؛ وكأن الكارثة لم تكن كافية، اشتعلت النيران مجددًا في أكتوبر 2024، ليرتفع عدد الشهداء إلى 3,768، والجرحى والمصابين إلى 15,699، مع نزوح أكثر من 886,000 إنسان، في حين قُدّرت الخسائر الاقتصادية في البنية التحتية بنحو 2.8 مليار دولار، إضافة إلى خسائر بلغت 1.1 مليار دولار في القطاع الزراعي، ورغم كل هذه الكوارث، يظل لبنان صامدًا، شاهدًا على غياب العدالة الإنسانية، لكنه أيضًا رمزٌ لصمود شعب يرفض الخضوع، ويقاتل بشجاعة لاستعادة حقه في الحماية والحياة.

وفي اليمن، أدت الحرب إلى استشهاد أكثر من 377و000 إنسان ، بينما يعاني 17 مليون إنسان من إنعدام الأمن الغذائي ، لتفوق سوريا اليمن بأكثر من 400,000 شهيد ، وتشريد 13 مليون إنسان ، ثم السودان الذي نزح منه أكثر من 4 ملايين إنسان ، وتستمر المنطقة في السقوط في مستنقع الحروب .  

ولنا في الحروب دروسٌ قاسية، تحمل في طياتها العبر لمن يعي خطورة النزاعات وعبثية الصراعات؛ فقد دفع العالم ثمنًا باهظًا من الأرواح والمقدرات في الحروب العالمية الكبرى..

في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، بلغت الخسائر البشرية نحو 20 مليون إنسان، بينهم 10 ملايين عسكري و10 ملايين مدني، بينما تجاوز عدد الجرحى والمصابين 21 مليونًا، وبلغ عدد اللاجئين والمشردين حوالي 10 ملايين إنسان؛ أما الخسائر الاقتصادية، فقد تمثلت في تكلفة إجمالية تُقدّر بحوالي 208 مليارات دولار، ما يعادل اليوم نحو 4.5 تريليون دولار، إضافة إلى الدمار الشامل الذي طال المدن والبنية التحتية في أوروبا، لا سيما في فرنسا وبلجيكا، حيث أُتلفت الطرق والسكك الحديدية والمدن بأكملها.

أما في الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، فقد كانت المأساة أشد وطأة؛ إذ ارتفعت الخسائر البشرية إلى ما بين 70 و85 مليون إنسان، وهو ما يعادل 3% من سكان العالم في ذلك الوقت، منهم حوالي 25 مليون عسكري و50 مليون مدني، بينما بلغ عدد الجرحى والمصابين نحو 35 مليون إنسان، وتشرد أكثر من 60 مليون آخرين؛ أما من الناحية الاقتصادية، فقد قُدّرت تكلفة الحرب الإجمالية بحوالي 1.6 تريليون دولار، أي ما يعادل اليوم 30 تريليون دولار، بالإضافة إلى خسائر مدمرة في البنية التحتية، حيث شهدت ألمانيا تدمير 2.5 مليون منزل، بخسائر اقتصادية تجاوزت 270 مليار دولار، بينما دُمرت في اليابان مدن بأكملها مثل هيروشيما وناجازاكي جراء القصف النووي؛ أما الاتحاد السوفيتي، فقد خسر أكثر من 25% من موارده الإنتاجية، وفي بريطانيا، تضررت معظم المدن الكبرى، لا سيما لندن، حيث بلغت الخسائر الاقتصادية أكثر من 25 مليار دولار.

وعندما نجمع ما تكبدته البشرية من خسائر في الحربين معًا، نجد أن العدد الإجمالي للقتلى تجاوز 100 مليون إنسان، والجرحى أكثر من 56 مليونًا، ومئات الملايين من المشردين، بينما تجاوزت الخسائر الاقتصادية الإجمالية 1.8 تريليون دولار في ذلك الوقت، ما يعادل اليوم حوالي 35 تريليون دولار.

هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل صرخة تحذير للبشرية من مغبة السير في طريق الحروب؛ فهي تؤكد أن النزاعات المسلحة لا تجلب سلامًا، بل تُخلف دمارًا عميقًا وآثارًا تمتد لعقود طويلة؛ على النقيض، أثبتت التجارب النهضوية، مثل اليابان وألمانيا، أن البناء يبدأ بالإنسان قبل البنيان، وأن السلام والتنمية لا يتحققان إلا بالإرادة والرؤية والعقول الواعية التي تضع الإنسان في قلب كل مشروع حضاري.

وعلينا أن ندرك قبل استشراف المستقبل أن الحروب درسٌ قاسٍ، لكن النهضة الإنسانية تظل الخيار الوحيد لإعادة صياغة مستقبل البشرية، بعيدًا عن الدمار وعنوة الصراعات.

المسار  .. الإنسانية بين خيارين

العالم اليوم أمام لحظة فارقة؛ حيث تضعه الأزمات أمام خيارين: البناء أو الدمار؛ وعليه يكون مشروع النهضة الإنسانية الشاملة هو الأمل الوحيد لإنقاذ البشرية من مصير مظلم؛ لكنه ليس مجرد رؤية من رحم معاناة، بل ضرورة وجودية تستدعي إرادة جماعية ومسؤولية مشتركة؛ فهل نمتلك الشجاعة لنختار البناء بدلًا من الدمار؟ وهل نستطيع أن نعيد للإنسان إنسانيته وللعالم توازنه؟ الزمن لا ينتظر، والفرصة بين أيدينا، فإما أن نبني أو نغرق في ظلمات لا رجعة منها .

استشراف .. النهضة الإنسانية

إن استشراف النهضة الإنسانية ليس حلمًا مستحيلًا، بل مشروع علمي وعملي يعيد صياغة النظام العالمي على أسس الحق والحرية والعدالة والتعاون؛ ويُحقق توازنًا بين الفرد والمجتمع، وبين الإنسان والطبيعة.

مشروع النهضة الإنسانية الشاملة يبدأ بالوعي والتعليم كوسيلة للتغيير؛ وينتهج العدالة الاجتماعية والاقتصادية بالمحافظة على الحقوق وإدارة الموارد لتحقيق الاستقرار وتقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء؛ ويستثمر التكنولوجيا في خدمة الإنسانية، لتصبح وسيلة لحل المشكلات الإنسانية وتحسين البنية التحتية والزراعية والصناعية.

بناء نظام عالمي قائم على القيم هي حجر الزاوية في النهضة؛ حيث تصبح القيم الإنسانية أساسًا يُبنى عليه النظام العالمي، قوامها الحق والعدالة، ومرتكزاتها الحوار والشراكة، ومحورها الإنسان، وهدفها بناء السلام وحل النزاعات دون هيمنة أو احتلال.

في كلمات لكل عقلاء العالم، نعلنها دعوة خاصة للاستجابة لنداء النهضة الإنسانية؛

 فالنهضة الإنسانية الشاملة ليست مجرد رؤية، بل ضرورة لإنقاذ البشرية من مصير مجهول، يوجب التلبية لإعادة بناء الإنسان واستعادة القيم التي تجعل من الحياة أكثر حرية وعدلًا وإنسانية؛ وتؤكد قدرة الإنسان على التغيير والتجديد والبناء والتنمية، بمشروع عالمي علمي وعملي، يضع سؤالًا لبداية حقيقية، فردية كانت أو جماعية أو مجتمعية: هل نستجيب لنداء النهضة الإنسانية ونتحمل مسؤوليتنا تجاه أنفسنا وأجيالنا القادمة؟ أم نترك السفينة تغرق في بحر الظلمات؟ الخيار لنا، وكلنا سيسأل ويحاسب، والزمن يعبر ليسجل ويسطر إما استمرارًا للسقوط في الحروب نحو حرب عالمية ثالثة أو ملحمة صمود وصعود نحو نهضة إنسانية شاملة؛ .. والقرار للشعوب.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى