قضية صناديق العاملين بوزارة الكهرباء في مصر تُعتبر إحدى أكثر الملفات غموضًا وإثارة للجدل، إذ تمتد جذورها لعقود، وتُشكل جزءًا من شبكة الفساد التي تنخر في جسد الحكومة المصرية.
هذه الصناديق، التي من المفترض أن تُستخدم لخدمة العاملين، تحولت إلى مصدر إثراء خاص لكبار المسؤولين في قطاع الكهرباء، تاركين صغار الموظفين في معاناة دائمة. ولا شك أن ما يجري في هذه الصناديق يمثل نموذجًا صارخًا لمدى تقاعس الحكومة المصرية عن محاربة الفساد وضبط الأموال العامة.
نبدأ بقصة صندوق “الانتماء”، الذي يشترك فيه جميع العاملين بوزارة الكهرباء، والذي تُقدّر أصوله بأكثر من 2 مليار جنيه. وبالرغم من هذا الرقم الضخم، فإن سقف الصرف منه لا يتعدى 30 ألف جنيه، مما يثير التساؤلات حول وجهة باقي الأموال.
صندوق الرعاية، الذي يُقتطع 3% من رواتب العاملين لصالحه، يملك وديعة تُقدر بـ 30 مليون جنيه، ويصرف مبالغ كبيرة تصل إلى 20 مليون جنيه شهريًا كمكافآت نهاية الخدمة، إلا أن العمال لا يحصلون سوى على الفتات، مع عدم وضوح تام حول مصير الفوائد الضخمة التي تتراكم في هذه الصناديق.
ويُعد تصريح أمين صندوق “الانتماء” صادمًا، حيث نفى وجود صندوق يُسمى “صندوق التأمينات والمعاشات” أو “صندوق نهاية الخدمة”، زاعمًا أن كل العاملين بالدولة مشتركين في التأمينات والمعاشات، وأن ما يُسمى بمكافأة نهاية الخدمة لا تتجاوز كونها حافزًا تقدره الشركة القابضة.
يبلغ هذا الحافز 100 ألف جنيه، بينما يدفع العامل 2% من راتبه الأساسي و4% من الحافز، وبالرغم من هذا فإن وديعة صندوق الانتماء تبلغ مليارًا و300 مليون جنيه، وهي أموال ضخمة لا يعرف أحد مصيرها الفعلي.
تأتي هنا النقطة الأخطر، وهي أن كل هذه الأموال الضخمة، سواء في صندوق الانتماء أو صندوق الرعاية، لا تستفيد منها الدولة بشكل حقيقي، حيث أن الفساد المستشري في هذه الصناديق يحول دون توجيه الأموال لصالح الموازنة العامة أو تطوير قطاع الكهرباء.
وفي حين أن العاملين ينتظرون بفارغ الصبر الاستفادة من هذه الأموال عند التقاعد، فإن الحقيقة المؤلمة هي أن المستفيدين الحقيقيين هم كبار المسؤولين الذين يتقاضون مكافآت ومبالغ ضخمة تصل إلى 100 ألف جنيه شهريًا، بينما يكتفي صغار الموظفين بـ 300 جنيه فقط.
الأزمة ليست جديدة، فهي مشكلة متجذرة منذ عقود، حيث اعتبر وزير المالية الأسبق أن هذه الصناديق مثل “الأبناء غير الشرعيين”، فهي وليدة علاقات فاسدة بين كبار المسؤولين في الحكومة وقطاع الكهرباء، والنتيجة هي وجود صناديق ضخمة تُدار بسرية تامة، يستفيد منها المسؤولون فقط.
هذا الفساد الواضح في إدارة هذه الأموال جعل صندوق النقد الدولي يوصي مصر بضرورة حل هذه المشكلة المتفاقمة التي تهدد الاستقرار المالي للدولة.
ورغم أن القضاء المصري أصدر حكمًا ثانيًا ضد صندوق الانتماء، مُقرًا بأحقية العاملين في فروق مالية تُقدر بمئات الآلاف من الجنيهات، إلا أن الحكم لم يغير شيئًا على أرض الواقع.
يبقى السؤال الأكبر: لماذا لا تتحرك الحكومة المصرية بحزم لكشف هذا الفساد؟ ولماذا تظل هذه الصناديق لغزًا محيرًا لا يستطيع أحد الاقتراب منه؟ الجواب يبدو واضحًا، إذ أن المسؤولين عن هذه الصناديق يتمتعون بحماية قوية تُمكّنهم من الاستمرار في نهب أموال الدولة دون رقيب أو حسيب.
ويُعد إنشاء “صناديق التأمين الخاصة” أحد الأوجه القانونية لهذا الفساد، حيث تنتشر هذه الصناديق في جميع قطاعات الدولة، بما فيها قطاع الكهرباء.
ووفقًا لبيانات هيئة الرقابة المالية، فقد بلغ عدد صناديق التأمين الخاصة في مصر 764 صندوقًا في نهاية عام 2021، منها 694 صندوقًا عاملًا و70 تحت التصفية.
تستفيد من هذه الصناديق حوالي 5 ملايين عضو، وبلغت قيمة اشتراكاتها السنوية 13.6 مليار جنيه، بينما وصلت قيمة استثماراتها إلى 102.3 مليار جنيه، بنسبة نمو 19.5% مقارنة بالعام السابق. هذه الأرقام الهائلة تطرح تساؤلات حول كيفية إدارة هذه الأموال ومن يستفيد منها فعليًا.
وبالرغم من إصدار الحكومة لضوابط جديدة تهدف إلى حوكمة الصناديق الخاصة ومنع إنشاء أي صناديق جديدة إلا بقرار من مجلس النواب، إلا أن الوضع لم يتغير بشكل كبير، فمازالت صناديق الهيئات والشركات التابعة لوزارة الكهرباء مليئة بالأسرار. وقد تكرر الحديث عن هذه الصناديق لعقود، إلا أن الحكومة لم تتخذ حتى الآن خطوات جادة لكشف حقيقتها أو التحقيق في أوجه الإنفاق غير المشروعة التي تتم عبرها.
بقصة صناديق الكهرباء في مصر هي مثال واضح على الفساد الحكومي، حيث تُدار هذه الصناديق بمنطق السرية والتعتيم، ويتم استغلالها لتحقيق مكاسب شخصية على حساب أموال الدولة والعاملين. ورغم الجهود المعلنة من الحكومة لضبط هذه الأموال، إلا أن النتائج على أرض الواقع لا تزال بعيدة عن تطلعات الشعب المصري. إذا كانت الحكومة المصرية جادة في محاربة الفساد وتحقيق الشفافية، فإن أولى خطواتها يجب أن تبدأ بفتح هذا الملف الخطير ومحاسبة المسؤولين المتورطين في هذه الشبكة العنكبوتية من الفساد.