رغم الفوائد العديدة التي يوفرها النقل النهرى، ورغم أن نهر النيل يشكل شريانًا حيويًا يمتد عبر مسافة 1800 كيلومتر، إلا أن الحكومة المصرية لم تتمكن من استغلال هذه الميزة بشكل يحقق الاستفادة الاقتصادية القصوى.
النقل النهرى، الذي يعد من أقل وسائل النقل تكلفة في التشغيل والصيانة، لا يزال مهملاً بشكل صارخ، وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة حول فعالية التخطيط الحكومى.
النقل النهرى في مصر لا يمثل سوى 0.8% من إجمالي حركة البضائع المنقولة داخل البلاد سنويًا، في حين تعتمد البلاد بشكل رئيسي على النقل البرى والشاحنات التي تسهم بشكل كبير في ازدحام الطرق وزيادة الحوادث، فضلاً عن تكاليف الصيانة المرتفعة.
ورغم الفوائد البيئية التي يوفرها النقل النهرى من تقليل استهلاك الوقود والحد من التلوث، تظل الحكومة تتجاهل هذه الفوائد ولا تُولي هذا القطاع الاهتمام المطلوب، بل تصر على إبقائه في دائرة الإهمال.
عند النظر إلى البنية التحتية، نجد أن العديد من المراسى والموانئ الخاصة بالنقل النهرى ما زالت بدائية، وقد تحولت بعض منها إلى أماكن مهجورة يستخدمها البلطجية أو تتحول إلى مأوى للحيوانات الضالة. تلك البنية التحتية غير الملائمة لا تقتصر على تدهور الوضع المادي فقط، بل تهدد أيضًا بسلامة العمليات الملاحية، مما ينعكس سلبًا على أمان النقل النهرى.
بالرغم من أن الحكومة وضعت خططًا استراتيجية لتحسين النقل النهرى، فإن الواقع يعكس تراجعًا كبيرًا في تحقيق هذه الأهداف. من بين أبرز المشكلات التي تواجه هذا القطاع هو غاطس المياه في النيل الذي يتغير بشكل موسمي، مما يعوق حركة البواخر والوحدات النهرية ويقلل من قدرة هذا القطاع على نقل البضائع بشكل فعال. كما أن انخفاض منسوب المياه نتيجة لتصرفات غير مدروسة من جانب الجهات المعنية في الري يتسبب في تأخير الرحلات وتعطل الوحدات النهرية، مما يؤدي إلى خسائر كبيرة ويزيد من معاناة أصحاب الشركات والعاملين في هذا المجال.
بالإضافة إلى هذه المشاكل التقنية، يواجه النقل النهرى في مصر أزمة في نقص العمالة المدربة. لا يوجد توجه حكومي حقيقي لتدريب العمالة على تقنيات العمل الحديثة، بل لا يزال القطاع يعتمد على ممارسات قديمة تعتمد على التوريث العائلي في الوظائف. وهذا الأمر يعكس ضعفًا في الأداء المهني، حيث يفتقر العمال إلى التدريب الذي يجعلهم قادرين على التعامل مع تقنيات ومعدات النقل الحديثة.
أما فيما يخص تطوير قطاع النقل النهرى، فقد أعلنت الحكومة منذ عام 2015 عن هدف زيادة الاعتماد على هذا القطاع ليصل إلى 10% من إجمالي عمليات النقل في البلاد خلال 15 عامًا. ولكن لا يبدو أن هناك خطوات حقيقية لتحقيق هذا الهدف، بل يظل القطاع يعاني من الإهمال في مختلف جوانبه، بدءًا من البنية التحتية وحتى تطوير الوحدات النهرية. النقص في المحطات البحرية، بالإضافة إلى عدم تطوير الوحدات النهرية التي لا تتماشى مع المعايير العالمية، يضعف قدرة القطاع على تلبية احتياجات النقل بشكل فعال.
على الرغم من محاولة جذب الاستثمارات الخارجية لتطوير النقل النهرى، من خلال شركات إماراتية أعلنت عن نيتها ضخ استثمارات ضخمة في هذا القطاع، إلا أن هذه الاستثمارات قد لا تكون كافية لإنقاذ القطاع في ظل غياب الدعم الحكومي المستمر وغياب الخطط المدروسة. الاستثمار الأجنبي قد يكون حلاً جزئيًا ولكنه لن ينجح إلا إذا تمت إزالة العراقيل التي تعيق تطوير هذا القطاع داخليًا، مثل مشكلات البنية التحتية ونقص الكوادر المدربة.
فيما يتعلق بنقل الركاب، يعتبر النقل النهرى في مصر أقل من كفاءته في نقل البضائع. هناك حاجة ماسة إلى تطوير وسائل النقل البحرى لنقل الأفراد، من خلال إنشاء مراسٍ مجهزة وحديثة وتطوير أساطيل النقل النهري لتتناسب مع المتطلبات الحديثة للسياحة والنقل الداخلي. بالنظر إلى الفوائد السياحية التي يمكن أن يجلبها النقل النهرى من خلال توفير وسائل نقل متطورة، يمكن القول إن هناك إهمالًا في استغلال هذه الإمكانيات بشكل فعال.
النقل النهرى في مصر لا يزال يعاني من التهميش والتجاهل الحكومى رغم ما يقدمه من حلول فعالة لعدد من المشاكل الاقتصادية والبيئية. الحكومة فشلت في إحداث التحول المطلوب في هذا القطاع، بل إنها تسببت في تعطيل العديد من المشروعات المتعلقة بتطوير النقل النهرى من خلال تهاونها في تنفيذ الخطط، مما يعكس تراجعًا كبيرًا في الاهتمام بالبنية التحتية والموارد المتاحة. هذا التراخي المستمر في إهمال النقل النهرى يجب أن يُنظر إليه كأحد أسباب تفاقم المشاكل الاقتصادية في البلاد، ويجب أن تُبذل جهود أكبر لتفعيل هذا القطاع الحيوي وتطويره بما يتماشى مع متطلبات العصر.