وصلت واردات مصر من الأجبان في عام 2023 إلى رقم مذهل، حيث بلغت قيمتها 95.3 مليون دولار، أي ما يعادل حوالي 4.7 مليار جنيه مصري بالسعر الحالي للدولار. وإذا أردنا تقسيم هذا الرقم على عدد السكان، فهذا يعني أن نصيب كل مواطن مصري من هذه الواردات بلغ حوالي 44 جنيهاً في السنة.
هذه الأرقام تجعلنا نتساءل بجدية: هل مصر بحاجة فعلية إلى استيراد هذه الكميات الهائلة من الأجبان؟ وهل هي ضرورة لا غنى عنها في ظل الوضع الاقتصادي الحالي الذي يعاني من تحديات عديدة؟ وما مدى تأثير هذه الواردات على الاقتصاد المحلي والإنتاج الوطني؟
الواردات بهذا الحجم تعكس واقعاً يعاني من اختلال واضح في الأولويات الاقتصادية لمصر. ففي الوقت الذي تحاول فيه الدولة تخفيف الضغط على مواردها الأجنبية بسبب ندرة الدولار والاعتماد الكبير على الواردات، يبدو أن استيراد كميات ضخمة من الأجبان لا يتوافق مع الحاجة الملحة لترشيد استهلاك العملات الأجنبية. من المؤكد أن هناك قطاعات أكثر حاجة للدولار، مثل الأدوية أو مستلزمات الصناعة التي تمثل قيمة مضافة للاقتصاد.
من ناحية أخرى، السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تستورد مصر هذه الكميات الكبيرة من الأجبان رغم أنها تمتلك قطاعاً زراعياً وصناعياً واسعاً يمكن أن يحقق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال؟ لا يمكن تجاهل حقيقة أن مصر لديها إمكانيات كبيرة لإنتاج منتجات الألبان وتطوير قطاع الصناعات الغذائية. ولكن بدلاً من ذلك نجد أن هناك اعتماداً غير مبرر على الواردات، وهو ما يؤدي إلى تفاقم العجز التجاري وضغط أكبر على الاقتصاد المصري.
ما يثير القلق أيضاً هو أن الحكومة تتحدث باستمرار عن تشجيع التصنيع المحلي ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ولكن في المقابل نرى أن السوق المصري يغرق بمنتجات أجنبية مثل الأجبان، دون وجود رؤية واضحة لتمكين الصناعات المحلية في هذا القطاع. وهنا يجب التساؤل: أين هي السياسات الاقتصادية التي تهدف إلى حماية الصناعات الوطنية وتقليل الاعتماد على الواردات؟
الأجبان المستوردة، التي يتم إنفاق الملايين عليها، تدخل السوق المصري وتجد إقبالاً من شرائح واسعة من المستهلكين. لكن السؤال الحقيقي هو: ما الذي يجعل المستهلك المصري يفضل الأجبان المستوردة على تلك المنتجة محلياً؟ هل يتعلق الأمر بالجودة، التنوع، أو ربما العادات الاستهلاكية المتأثرة بالإعلانات والماركات العالمية؟ وفي حال كان الأمر متعلقاً بالجودة، فماذا يمنع الشركات المصرية من الارتقاء بمستوى إنتاجها لتنافس على الأقل المنتجات الأجنبية التي تأتي بأثمان مرتفعة وتثقل كاهل الاقتصاد الوطني؟
ومما لا شك فيه أن ارتفاع فاتورة الاستيراد في هذا المجال يعزز الحاجة الملحة إلى تعزيز الإنتاج المحلي من الأجبان ومنتجات الألبان. هناك العديد من الدول التي تمكنت من تحقيق اكتفاء ذاتي في هذا القطاع بل وأصبحت تصدر منتجاتها إلى الخارج. فلماذا لا تستفيد مصر من هذه التجارب الناجحة؟ خاصة أن البلاد تمتلك كافة المقومات اللازمة لتحقيق ذلك، سواء من حيث الموارد الطبيعية أو الأيدي العاملة المتاحة. مصر تحتاج إلى تطوير بنية تحتية قوية تدعم التصنيع الغذائي وتحفز الاستثمارات في هذا المجال الحيوي.
أيضاً يجب أن نضع في الاعتبار أن الاستمرار في استيراد الأجبان بكميات ضخمة من الخارج ليس فقط هدرًا للعملة الصعبة، ولكنه أيضًا يفوت فرصة ذهبية لتنمية قطاع حيوي يمكن أن يوفر فرص عمل كثيرة للشباب ويقلل من نسب البطالة المرتفعة. هناك ملايين من الشباب المصريين الذين يبحثون عن فرص عمل، وقطاع الصناعات الغذائية، بما في ذلك إنتاج الأجبان، يمكن أن يكون جزءاً من الحل إذا تم الاستثمار فيه بشكل جدي وحقيقي.
ومن الجدير بالذكر أن الحكومات السابقة تحدثت كثيراً عن دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والتي من المفترض أن تكون حجر الأساس في نمو الصناعات المحلية. لكن على أرض الواقع، يبدو أن هذه السياسات لم تتحقق بالشكل المطلوب. فالأجبان المحلية لا تزال تعاني من ضعف التسويق والتمويل والتكنولوجيا، بينما الأجبان المستوردة تهيمن على الأرفف في المتاجر الكبرى، في مشهد يعكس عدم التوازن في السوق بين المنتج المحلي والمستورد.
هذا الواقع يدعو إلى ضرورة إعادة النظر في السياسات التجارية والزراعية في مصر. فالبلاد لا يمكنها أن تستمر في الاعتماد على استيراد منتجات غذائية أساسية مثل الأجبان بهذا الشكل الضخم، في الوقت الذي تواجه فيه تحديات اقتصادية كبيرة. الحل يكمن في دعم المنتج المحلي، ليس فقط من خلال التمويل، ولكن أيضًا من خلال تشريعات وسياسات تجبر الشركات على تطوير منتجاتها وتنافس في السوق المحلية والعالمية.
الأمر يتطلب أيضاً توعية المستهلك المصري بأهمية دعم المنتج المحلي وأثر ذلك على الاقتصاد الوطني. فالاعتماد على الواردات ليس فقط مسألة استهلاك، بل هو عامل رئيسي يؤثر على استقلالية البلاد الاقتصادية. يجب أن يكون هناك حملات توعوية تشجع على استهلاك المنتجات المحلية، خصوصاً في قطاعات يمكن أن تحقق فيها مصر الاكتفاء الذاتي مثل صناعة الأجبان.