عندما توليت منصب مدير مستشفى هيئة الشرطة في رتبة العميد، لم أكن أعرف أنني سأواجه تحديات تفوق تصوراتي بكثير. وكانت كل لحظة تحمل في طياتها أزمة أو حالة طبية صعبة تتطلب اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة، ولكن ما مررت به من أحداث ترك في نفسي آثاراً عميقة لن تُمحى بسهولة.
كان عليّ أن أتعامل مع مواقف غير تقليدية، مثل الحادث الإرهابي الذي تعرض له الأديب الكبير نجيب محفوظ، إصابة نجل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والأزمات الصحية التي مرت بها شخصيات فنية بارزة، كل هذا
بينما كنت أحاول الحفاظ على سير العمل في المستشفى بأعلى درجات الكفاءة. ما كان يميز هذه التجارب هو طبيعتها الإنسانية الصرفة، فكل حالة كانت تحكي قصة من معاناة وأمل وألم.
أحد أكثر المواقف المؤلمة التي ما زلت أذكرها بوضوح هو حادث محاولة اغتيال الأديب الكبير نجيب محفوظ. كنت في ذلك اليوم في مكتبي، أستريح بعد جولة مفاجئة في أقسام المستشفى، عندما تلقيت اتصالاً من أطباء الاستقبال يخبرونني أن الأديب محفوظ قد وصل للمستشفى بعد إصابته بجرح غائر في الرقبة نتيجة الهجوم الإرهابي.
دخلت بسرعة إلى غرفة الاستقبال لأجد الأديب الكبير، الذي كان في السابعة والثمانين من عمره، في حالة صحية حرجة. كان الدم ينزف بغزارة من الجرح الكبير في عنقه، وكانت حالته غير مستقرة على الإطلاق. على الفور،
بدأت الإجراءات الطبية الأولية من نقل دم وأدوية لوقف النزيف. ثم قمت بالاتصال بالأستاذ الدكتور أحمد سامح همام، أستاذ جراحة الأوعية الدموية، الذي وصل سريعاً وقام بالتدخل الجراحي الحاسم.
كانت الجراحة صعبة ومعقدة، فالموقع كان بالقرب من الفقرات العنقية الثالثة والرابعة، والعملية تطلبت جهدًا كبيرًا. إضافة إلى ذلك، كان الأديب محفوظ قد خضع لعملية قلب مفتوح منذ عام، وكان يعاني من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم.
رغم كل هذه العوامل المعقدة، استطاع الدكتور سامح همام ربط الشريان الرئيس بعد أكثر من ساعتين من العمل الجراحي المتواصل، مما كان له الأثر الكبير في استقرار حالته.
ورغم محنة الأديب الكبير، إلا أن حالته الصحية بدأت تتحسن بفضل الله، وكانت المستشفى تزدحم يوميًا بالزوار من مختلف الطبقات الاجتماعية والفكرية.
كان من بين هؤلاء الزوار شيخ الأزهر، البابا شنودة الثالث، السيدة سوزان مبارك، وعدد من الفنانين الكبار مثل أحمد مظهر، شكري سرحان، صلاح ذو الفقار، فاتن حمامة، وليلى علوي، الذين كانوا يحرصون على زيارة الأديب العظيم باستمرار. كانت هذه الزيارات بالنسبة لي شهادة حية على محبة الناس لهذا الرجل الذي ترك بصمة لا تُمحى في الثقافة العربية.
كنت دائمًا أزور نجيب محفوظ في غرفته بالمستشفى، وكانت كل زيارة تحمل في طياتها دروسًا في الحياة. في إحدى المرات، ذكر لي الدكتور يحيى الرخاوي، أستاذ الطب النفسي، أنه عندما سمع بالحادث، شعر بقلق شديد ولم يجرؤ على الرد على مكالمتي خوفًا من أن يكون الخبر الذي سأحمله له مؤلمًا.
لكن عندما التقى به، تحدث عن “جرعة تعاطي الناس الطيبين”، وهو التعبير الذي لا يمكن نسيانه. كان محفوظ يعيش على هذا الوفاء من المحبين، وكان ذلك هو سر قوة صموده وتجاوزه لمحنته الصحية.
مرت الأيام، وتماثل الأديب الكبير للشفاء بشكل ملحوظ، وأمضى شهرًا كاملاً في المستشفى، ثم غادر معافى. لكن ما لم أنسه هو مدى اهتمامه بالمستشفى والعاملين بها،
فقد كان دائم الاتصال بي ليشكرنا على جهودنا وعلى الرعاية الطبية التي قدمناها له، مما جعلني أدرك كيف أن الإنسانية، مهما كانت الظروف، تستطيع أن تخفف من وطأة الأزمات الكبيرة.
لا أستطيع أن أصف هذا الوقت إلا بأنه كان أشبه بكابوس طويل، لكنه كابوس مليء بالأمل والتحديات التي شكلت جزءًا من مسيرتي المهنية،
وأصبح الأديب نجيب محفوظ بعد ذلك رمزا آخر للثبات والصبر، وأصبحت تلك الفترة من حياتي أحد أروع وأهم الفصول التي ستظل عالقة في ذاكرتي.