نعود بالذاكرة إلى جلالة الملك فاروق، ملك مصر والسودان، الذي طالما صُوِّر في الأفلام والكتب على أنه رمز للفساد والانحلال والانحراف، كان في الواقع شخصية أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير.
إذا أمعنّا النظر في بعض قراراته ومرسومه الشهير الذي يمنع أبناء السفهاء من الالتحاق بكليات الطب والشرطة والحقوق والحربية، قد نجد أن هذا القرار لم يكن سوى محاولة للحفاظ على نزاهة المؤسسات الحيوية في البلاد.
لقد رأى فاروق، بحدسه الملكي أو بحكم تجربته، أن الأخلاق قبل العلم، وأن السلطة بيد من لا يملك ضميراً ستكون وسيلة لإفساد المجتمع بدلاً من إصلاحه.
الملك فاروق، الذي يعود نسبه إلى أصول ألبانية، لم يكن يسعى إلى التمييز ضد الفقراء كما قد يُفهم خطأً. لم يكن مقصده من منع أبناء “السفهاء” هو الطبقية أو حرمان البسطاء من فرص التعليم والتقدم. بل كان يخشى من انحطاط القيم والمبادئ، ويُدرك أن الفساد يمكن أن يأتي من انعدام الأخلاق لا من فقر الجيوب.
فالسفيه في نظره هو ذلك الشخص الذي يفتقد إلى الوعي الأخلاقي، ذلك الشخص الذي قد يتعلم ويصل إلى المناصب العليا ولكن يبقى قلبه ميتاً خاوياً من القيم والمبادئ.
إن الملك فاروق، رغم كل ما كُتب عنه من قصص الفساد والانحلال، كان الوحيد تقريباً الذي حاول بشكل واضح تطبيق فكرة نبيلة مستوحاة من الحديث الشريف الذي يحذر من تولية “السفهاء” للمناصب الحيوية.
كان يعلم أن الفساد الحقيقي يبدأ من القلوب الميتة، تلك التي قد تحاول إخفاء خرابها وراء الشهادات العلمية أو المناصب الرسمية. وعلى الرغم من أن التاريخ لم يكن عادلاً في حقه، فإن الأحداث الجارية في عصرنا الحالي قد تعيد لنا تذكيرًا ببعض حكمته.
اليوم، نرى نتائج عدم تطبيق هذا المرسوم الملكي بشكلٍ واضح. من قضايا الفساد التي تحيط بكثير من مؤسسات الدولة، إلى الأطباء المتورطين في بيع الأعضاء البشرية والقضاة الذين يتعاطون المخدرات أو يقبلون الرشاوى، جميعها أمثلة صارخة على ما يمكن أن يحدث عندما يُتاح لأبناء السفهاء الوصول إلى مراكز القرار والتأثير.
إن هؤلاء الأشخاص الذين لم يعرفوا معنى الشرف والأمانة هم الذين أصبحوا يشغلون المناصب التي كان الملك فاروق يخشى أن يصلوا إليها.
وفي هذا السياق، يبرز السؤال: كيف كان يمكن أن تكون حال مصر اليوم لو استمرت المبادئ التي حاول الملك فاروق زرعها؟ ماذا لو كانت معايير الاختيار للمناصب الحيوية تعتمد على النزاهة والشرف والأخلاق بدلاً من المال أو النفوذ الاجتماعي؟ الإجابة على هذا السؤال قد تبدو مؤلمة عندما نرى ما يحدث حولنا الآن.
الفقر الحقيقي ليس فقر المال، بل فقر القلوب. القلوب الفارغة من الأخلاق والإنسانية هي التي تفسد المجتمعات. وها نحن نرى كيف أن الأثرياء والمرفهين من أبناء السفهاء قد وصلوا إلى مواقع صنع القرار، لكنهم يفتقدون القدرة على إدارة شؤون الناس بشرف وعدالة. المال قد يشتري التعليم أو السلطة، لكنه لا يمكن أن يشتري النزاهة.
إن الحياة مليئة بالأمثلة التي تُثبت صحة ما كان يخشاه الملك فاروق. ففي النهاية، السعادة الحقيقية ليست في الامتلاك المادي، بل في القناعة والعطاء، وفي راحة النفس التي تقبل القضاء والقدر.
أما النذالة، فهي سمة لا يمحوها المال ولا السلطة. فالندل سيظل ندلاً مهما زادت ثروته أو علا منصبه. والشخص الخاوي من القيم، مهما حاول أن يتظاهر بالعظمة، سيظل في داخله غريبًا عن عالم الرجال النبلاء.
ويمكن القول إن الحياة ليست سهلة كما تبدو في الكلمات، بل هي صعبة عندما نتعامل معها، ومليئة بالتحديات. والمتعة التي نجدها أحياناً في الانغماس في تيارها قد تكون وهمية مثل السراب.
وكما يوجد ماء زائف لا يروي العطش، هناك أشخاص وأقارب وعلاقات قد تبدو في ظاهرها عطاءً، ولكنها في واقعها مجرد خراب.
الملك فاروق كان يجسد ما يمكن اعتباره تجسيدًا حيًا لأحد الأحاديث النبوية التي نصت على ضرورة عدم تمكين السفهاء من شؤون الحكم والقضاء، لأنهم إذا تولوا المناصب اجتهدوا في إذلال الشرفاء. والآن، وفي ظل الفساد الذي ينهش في مؤسساتنا الحيوية، نرى كيف أن عدم الامتثال لهذا المبدأ أدى إلى كارثة مجتمعية.
نحن نعيش في عصر يعج بالتضليل، حيث تُستخدم الأفلام والبرامج التلفزيونية لتشويه تاريخ الرجل الذي ربما كان الأحق بتقديرنا واحترامنا. هذه الوسائل الإعلامية تحاول إظهار الملك فاروق على أنه رمز للفساد والانحراف، في حين أن التاريخ ربما يحمل رؤية مختلفة تماماً.
إذا أمعنّا النظر في القرارات التي اتخذها، نجد أن الرجل كان يعي تمامًا ما يفعله، وكان يسعى لحماية المجتمع من الانحطاط الأخلاقي الذي نعيشه اليوم. وما النتيجة؟ أطباء يبيعون الأعضاء البشرية، قضاة يتعاطون المخدرات، وضباط يسحقون كرامة الأبرياء، وكلهم أبناء السفهاء الذين حذرنا منهم.
قد نحتاج الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة النظر في قرارات الملك فاروق والتأمل في حكمته. ربما لو التزمنا بهذا المبدأ، لما وصلنا إلى هذا الحد من الفساد والانحطاط. لقد أخطأنا في تقدير هذا الرجل، وربما حان الوقت لكي نعيد تقييم دوره التاريخي.
إن الملك فاروق قد يكون قد رحل، لكن حكمته التي حاول تمريرها عبر قراراته ما زالت تهمس في أذاننا. رحم الله الملك فاروق، ورحمنا جميعًا من أبناء السفهاء الذين أصبحوا يسيرون بيننا، محتلين مواقع السلطة والتأثير، دون أن يحملوا في قلوبهم ذرة من النزاهة أو الشرف.
الحياة قاسية عندما تبتعد عن القيم، سهلة عندما نتحدث عنها من بعيد، لكنها تصبح جحيماً عندما يعيشها الإنسان في ظل انعدام الضمير. القلوب الخاوية ليست تلك التي تفتقر إلى المال، بل التي تفتقر إلى المشاعر النبيلة والضمير الحي.
إن السعادة الحقيقية لا تأتي من الثروات، بل من قلب قانع بالعطاء، ونفس مطمئنة بالقضاء. لكن ماذا نفعل عندما يسيطر الندل على المشهد، والجبناء على القيادة؟ هؤلاء، مهما كبرت ثرواتهم أو تضخمت سلطاتهم، لن يكونوا أبدًا رجالاً.
نحن اليوم، نعيش في عالم مليء بالسراب، أشخاص يخدعوننا بظواهرهم، أقارب باتوا غرباء، ومشاعر أصبحت مجرد إعجاب عابر. الحياة معقدة وشائكة، لكن ما يزيدها سوءاً هو عندما يتحكم بها أبناء السفهاء الذين يعبثون بمصائر الشعوب بلا وازع ولا ضمير.