هوكستين في الضاحية الجنوبية: بين مفاوضات الهدنة ودمار يشهد على نهاية مرحلة
في لحظات التوتر التي عاشها لبنان خلال الأسابيع الماضية، كان هناك حدث كبير على الساحة السياسية يستحق أن نتوقف عنده بكل تأمل وتفكير. كان هوكستين، الضيف الثقيل ذو القسمات الحادة والشعر اللزج، يتجول في الأرجاء، حاملاً معه آمالاً ضئيلة في إتمام مفاوضات لوقف إطلاق النار في لبنان.
وبدلاً من أن ينتظر الجميع بفارغ الصبر ما ستؤول إليه الأمور، قررت أن أغتنم هذه الفرصة وأقود سيارتي إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، في محاولة لتفقد منازل أهلي في مناطق مثل الرويس وحارة حريك. فزيارة مثل هذه لا تكون يومية، ولا من السهل تجاهلها في ظل هذا الزخم السياسي، وعليه كان قراري الدخول إلى الضاحية في تلك اللحظات تحديداً.
مفاوضات لوقف إطلاق النار كانت تجري في عين التينة، حيث كان هوكستين يجلس مع نبيه بري، وكاننا في مفترق طرق على الحدود مع العدو الذي يقف منتظراً بقلق شديد لما ستسفر عنه هذه الجولات التفاوضية. ومع هذا الانفراج الظاهر في الأفق، جاءت الهدنة لتبعث الراحة في النفوس وتحرك الحياة بشكل غير متوقع.
فبعد أسابيع من الألم والتشويش، خرج الناس من بيوتهم ليلتقطوا صوراً مع آثار الدمار، وكأنهم يبحثون عن فرصة للاحتفاظ بذكرى قبل أن تبدأ عملية إعادة الإعمار. كان الجميع يتمنى أن تكون هذه اللحظات مجرد استراحة قصيرة قبل العودة إلى حياة طبيعية، في وقت كانت أجواء القلق والخوف تسيطر على كل شيء.
في تلك اللحظات قررت أن أكون جزءاً من هذا المشهد، أقرر دخول الضاحية لعلني أتمكن من التأكد من وضع منازل أهلي، ولعلني أكون شاهدًا على واقع مختلف. كانت المرة الأولى التي أعود فيها إلى هناك منذ مغادرتي إلى الأشرفية، وكنت أحاول أن أخفي مشاعر الخوف والقلق التي كانت تلاحقني. عبرت طريق المطار بسرعة فائقة، غامرة في شعور غريب لم أكن أملك تفسيره تماماً. كنت أتمنى فقط أن أعود لأؤنس وحشة هذه البيوت التي تم إخلاؤها بسبب الحرب.
ما إن اقتربت من بيتنا، حتى بدأت أعيد ترتيب الذكريات في ذهني. كان الجدار الذي أغطاه والدي بصور أحبائه لا يزال قائماً، لكنه كان يئن من تحت الأنقاض. الزجاج المكسر كان يتناثر هنا وهناك، وتذكرني مشهد مكتبة والدي المفتوحة على آخرها، فشعرت بقبضة الألم في قلبي. وصلت إلى المنطقة المجاورة، حيث كانت واجهة المجلس الشيعي على اليسار، وكل شيء بدا كأنه لم يمسسه الدمار بعد. كنت أعرف جيداً أن المجلس كان بمثابة واجهة فارغة، ومهما حدث لن يختلف حاله. لكن لحظة دخولي إلى النفق الذي يؤدي إلى قلب الضاحية، لم أتمكن من التخلص من شعور الانقباض في قلبي، وبدأت الأضرار تتوسع أمامي، مشهد تلو الآخر. توقفت لوهلة، أحاول تهدئة نفسي، كنت أشعر بحالة من الغضب والحزن تشتعل داخلي.
مشهد الدمار امتد من الجسر وحتى حي الرويس، وأحسست أنني أدخل عالماً آخر بعيداً عن واقعنا. بدأ كل شيء يتناثر أمام عيني كأنني كنت أعيش مشهداً في فيلم سينمائي عن نهاية العالم. كان الطريق نفسه يغمره الخراب، الأبنية بلا واجهات، المحال التجارية مغلقة أبوابها أو مدمرة بالكامل. شعرت وكأنني أعود إلى تاريخ طويل من المآسي، بداية من مدن غزة إلى الخرطوم وحلب وبغداد وتعز. كان من الواضح أن العدو لا يدمر المدن عبثًا، بل هو عقيدة قائمة على محو الوجود المادي للآخرين. كان الدمار جزءاً من ثقافة الحياة والموت التي تنبني على أن الإنسان لا قيمة له إلا بقدر تحكمه في الأرض والعمران.
مغادرة هذه الأحياء كانت تتم بصعوبة بالغة. الكآبة كانت تلاحقني في كل خطوة، كانت أشلاء هذا المكان تطاردني، كل شيء كان يصرخ في وجهي. تذكرت كيف كانت الضاحية في السبعينات، كيف كانت الحياة هناك مليئة بالأمل والطمأنينة. كنت أرى في عيني كل بيتٍ في الحي صورة لذكريات جميلة لا يمكن محوها بسهولة، حتى وإن كانت أصوات القصف تلاحق تلك الذكريات. المنطقة التي كانت مملوءة بالخضرة والأشجار، والتي كانت تخرج من أزقتها أصداء الحياة اليومية، تبدلت تمامًا إلى مكان مملوء بالفوضى والخراب.
وصلت إلى الحي القديم حيث كان يعيش أهلي، وفي طريق العودة تأكدت من دمار المحال التجارية، وهي صورة حزينة تختصر جزءاً كبيراً من تاريخ الضاحية. كانت المحلات، مثل “الدعبول”، مدمرة، وما تبقى منها مجرد أكوام من البضائع المتناثرة على الأرصفة. كان المكان يبدو كأنه مهجور، وعندما اقتربت من بعض المحال الأخرى مثل “صالون عبير” و”مطعم الحكيم”، لم أتمكن من التحقق من حالتها بسبب الدمار الذي كان يغطي كل شيء.
لكن الخوف لم يكن يقتصر على مشاهد الدمار المادي فحسب. في مشهد محير وغريب، أثناء محاولتي الخروج من الضاحية عبر طريق صيدا القديمة، كان هناك شبان مسلحون يرتدون الملابس السوداء، قد اعترضوا طريقي وسألوني عما أفعله. كنت أظن أنني في مكان يتيح لي التنقل بحرية، لكن فوجئت بحاجز أمني آخر يضيف مزيدًا من التوتر. فحتى هذا الجزء من لبنان لم يكن آمناً بعد، وكان من الواضح أن الناس يحاولون فرض سيطرة غير مفهومة على هذا المكان.
لكن الصدمة الأكبر كانت أنني علمت من خلال الراديو أن هوكستين كان قد حل في مقهى “ستارباكس” في فردان، يتبادل الحديث مع البعض في جو من الاحتفالات والتقاط الصور التذكارية. كان هذا المشهد غريباً للغاية. كيف يمكن لمفاوضات وقف إطلاق النار أن تتزامن مع مشهد كهذا؟ مئات من الأبرياء يلتقطون صورًا مع ضيف ليس له صلة بهم، وهو يتنقل بحرية بين الأحياء في حين أن كل شيء من حولهم ينهار.
كانت هذه اللحظات كفيلة بأن تجعلني أسترجع في ذهني كتاب “حياتي في مدينة لينينغراد المحاصرة” الذي وثق حياة المدينة المحاصرة في ظل القصف والحرب. مثلما كانت الحياة في لينينغراد محاصرة، كانت الضاحية اليوم محاصرة أيضًا بالدمار والخوف، لكن الفارق الوحيد هو أننا لم نتوقع هذا الصراع المدمر، بل تركنا المدينة لتقع في قبضة هذه القوى المتوحشة.