في مشهد لا يُنسى من مسرحية “شاهد ما شفش حاجة”، يقف عادل إمام، نجم الكوميديا المصرية الذي لطالما تفنن في صناعة الضحك من أبسط الحوارات وأكثرها عادية.
حيث قدم لنا مثالاً غير متوقع على تأثير الفن في الواقع من خلال حوار بسيط وساخر مع القاضي “عارف آخر نفق العباسية؟” ليرد القاضي ببساطة “أيوة عارفه”، فيأتي الرد المدهش من عادل إمام “في واحد بتاع عصير!”، فيستغرب القاضي ويسأل “إيه مالو؟” ليأتي الرد القاطع “وحش، ما تشربش منه”.
يبدو للوهلة الأولى أن هذه النكتة مجرد تعليق عابر ضمن مسرحية تهدف إلى الضحك والترفيه، لكن الواقع كان أغرب من الخيال.
العبارة تلك لم تكن مجرد ضحكة عابرة على المسرح، بل كانت إعلانًا مجانيًا وإن كان ساخراً لمحل عصير حقيقي كان موجوداً بالفعل عند نهاية نفق العباسية، ومحله هذا كان على وشك الإفلاس بسبب رداءة منتجه.
ولكن بسبب تلك المزحة المسرحية، تحولت سخرية الجمهور إلى رغبة عارمة في تجربة هذا العصير السيء، فقط ليختبروا بأنفسهم مدى صحة نكتة عادل إمام.
وهكذا، تحول الرجل من بائع عصير على وشك الإغلاق إلى مالك سلسلة ناجحة بفضل “الدعاية السلبية” التي، بشكل غير مقصود، جلبت له أعدادًا هائلة من الزبائن.
ما يثير السخرية في هذا الموقف هو أن صاحب المحل الذي فكر في رفع قضية ضد المسرحية بسبب الضرر المعنوي، وجد نفسه في النهاية يغرق في الأرباح. والفضل كله يعود لمزحة بريئة في مسرحية.
هذا الموقف الغريب يعكس كيف يمكن أن تتحول السخرية والانتقاد إلى وسيلة دعائية غير متوقعة، وهو ما يفتح باباً واسعاً للتأمل في سلوكنا كمجتمع، خاصة في زمن وسائل التواصل الاجتماعي.
الفكرة هنا ليست فقط في تأثير المسرح أو الفن، بل تتجاوز ذلك إلى قدرتنا نحن كمستهلكين على جعل التفاهة والرداءة تتصدر المشهد.
تماماً كما فعل جمهور “شاهد ما شفش حاجة” الذي تدفق على محل العصير السيء من باب الفضول، نكرر اليوم نفس النمط السلوكي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث نغذي الحمقى ونمنح الجهلاء شهرة غير مستحقة.
فبمجرد أن نعلق على تفاهات ما يقدمه هؤلاء الأشخاص، ونتداول مقاطعهم وننشرها، نمنحهم القوة التي لم يكونوا ليحلموا بها.
إن ما فعله عادل إمام لصاحب محل العصير ليس مختلفاً عما نفعله اليوم للمشاهير “الحمقى” على الإنترنت. نحن نصنع نجومًا من فراغ، فقط لأننا نتفاعل مع الهراء، نضحك على سخافاتهم، ثم نتعجب من سرعة انتشارهم وصعودهم إلى القمة. بدلاً من أن نتجاهل ما لا يستحق الانتباه، نعطيه من وقتنا واهتمامنا، مما يجعله يكبر ويستمر.
الحقيقة المريرة هي أننا، بشكل غير مباشر، نساهم في جعل التفاهة مزدهرة. نملأ فضاء الإنترنت بتعليقاتنا ومشاركاتنا، ثم نتساءل كيف أصبح هؤلاء الحمقى مشاهير. هل حقاً لا نرى أننا نحن من نصنعهم؟ نحن من نمنحهم المنابر والمشاهدات والضجة التي تجعلهم يستمرون.
ربما يجب أن نتعلم شيئاً من درس عادل إمام وصاحب محل العصير. ليس كل ما يستفزنا أو يثير فضولنا يستحق المتابعة أو التعليق.
إذا كنا نريد حقًا تقليل مساحة الجهل والتفاهة في حياتنا، فعلينا أن نتوقف عن التفاعل معها. لا تجعلوا الحمقى نجومًا؛ دعوا هراءهم يموت بصمت. لا تعليق، لا مشاركة، لا شهرة.
فالمسألة في نهاية المطاف ليست في نوع العصير السيء أو في جودة المحتوى الفارغ، بل في أننا نحن من نمنح هذا “العصير” حقه في الانتشار، نحن من نقرر ما إذا كان هذا الجهل سيظل على الهامش أو سيصعد إلى القمة. إننا نسهم في بناء معابد الشهرة الزائفة، حيث يصبح الجاهل فيلسوفاً، والتافه فناناً، والمحتال معلماً.
يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا نعطي التفاهة هذا الزخم؟ لماذا نصر على نشر الفارغ بدل من تركه يموت في مكانه؟ لو أننا فقط نتجاهل هذه الهرطقات، كما نتجاهل العصير السيء في محل على وشك الإغلاق، لكانت الأمور مختلفة تماماً.
لكن، وبسبب استمتاعنا بالسخرية، أو ربما رغبتنا في أن نكون جزءاً من “الترند”، نحن نعيد الحياة لتلك الظواهر السلبية.
ما فعله عادل إمام في مشهده الشهير قد يبدو وكأنه مجرد دعابة، ولكنه في الحقيقة تجسيد لواحد من أعظم دروس العصر الحديث: التفاهة تعيش بتفاعلنا معها، وتزدهر باهتمامنا بها. وما علينا سوى أن نتوقف عن منحها هذا الاهتمام كي تموت بهدوء.
علينا أن نتعلم من درس محل العصير. الدعاية السلبية ليست دائماً ضارة. في بعض الأحيان، قد تكون أقوى من الدعاية الإيجابية.
والحمقى والجهلة الذين نراهم اليوم يتسلقون سلم الشهرة على أكتافنا، يفعلون ذلك لأننا نسمح لهم بذلك. نحن من يعطيهم الزخم، نحن من يضخم أصواتهم، ونحن من يجعلهم جزءاً من حياتنا اليومية. حان الوقت لنتوقف عن ذلك.