مشكلة كبيرة تلك التي تترك للدولة بمؤسساتها فعل كل ما يحلو إليها، دون رقابة أو محاسبة. واحد من أهم معالم التحديث والسمات المعروفة للدول المتمدينة، أن تتمسك الدولة بتطبيق الدستور والقانون، قبل أن تطلب من الناس، أن يتشبثوا بتلابيبه.
كثيرا ما كتب آخرون هنا وغير هنا، عن أن الدولة المصرية لا تطبق الدستور، بل وتتعمد خرقه في عديد من الأمور، أبرز مثال على ذلك ثُلة القوانين التي أوجب الدستور سنها، أو تعديلها منذ تعديل دستور 2012 عام 2014 دون جدوى، ناهيك عن الالتزامات التي أوجبها الدستور على الدولة بحق الناس، خاصة في مجال التعليم والصحة والبيئة والزراعة والسياحة وحقوق الإنسان بمختلف أشكالها. كل ما سبق من خروقات، جعلت عديد الناس يحذون حذو الدولة في خرق القانون، ما دام أن المسئول عن تطبيق القانون نفسه، إما غائبا أو فاسدا أو نائما. فإذا كان رب البيت بالدف ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص.
واحد من أهم الأمور التي نتلمسها اليوم عبثا بمقدرات وموارد الدولة القومية، هي الآثار المصرية، التي صارت منذ 2016، عبثا للمجلس الأعلى للآثار، وقد استشرت تلك الظاهرة خلال العام 2024 بشكل ملفت للغاية. فعقب سقوط الطائرة الروسية في سيناء عام 2015، استشعرت الوزارة فقرا كبيرا في عوائد السياحة، ارتأت أن تعوضه بالحفلات والأفراح في المناطق الأثرية. فالأفراح والمهرجانات وأحيانا المؤتمرات باتت تعشعش في تلك المناطق يوميا. وهكذا بات كل شيء يباع بالمال، في تجارة رخيصة ومتدنية، وقسمة ضيزى خاسرة. بعض تلك المناطق من آثار الحضارة المصرية العتيقة كالأهرامات التي شهدنا فيها منذ أيام قليلة أحد أفراح ابنه رجل أعمال شهير. بالمقابل نجد الآثار الحديثة، وقد مسها هي الأخرى التلوث بالأفراح والحفلات والمؤتمرات، وقد لوحظ ذلك في عديد الأماكن كقصر البارون إمبان، وكذلك قصور تنتمي للأسرة العلوية، بدءا من قصر القبة الذي لم يسلم هو الآخر من التدنيس. بالطبع لم تخلُ آثار العصور والحقب المصرية الوسيطة من العبث هي الأخرى، فقلعة الجبل التي بناها صلاح الدين الأيوبي، صارت مرتعا لكل من أراد أن يحيي فرحا أو واجب أو مسرة اجتماعية. ثماني قاعات هي جملة، ما يؤجر يوميا في قلعة الجبل (منها قاعة صلاح الدين، وقاعة سك العملة، والمتحف الحربي.. إلخ)، إضافة إلى الصرح والبهو المفتوح بصحن القلعة نفسه. هناك أيضا قلعة قايتباي بالإسكندرية، وقصر محمد علي بالمنيل، وقصر المانسترلي، وحديقة ركن الملك فاروق، وعقود القِران التي أصبحت تعقد في مساجد الرفاعي، والسلطان حسن، وأحمد بن طولون، والحاكم بأمر الله.
كل ما سبق من أمور تحمل انتهاكات، تأتي وسط عديد الأمور التي تتسم بالجنوح والشرود الفكري والثقافي المؤسسي.
فأولا: هذا المناخ العبثي الذي ذكرناه آنفا، هو جزء من عبث هيكلي، أصبح حاكما لكافة الأمور المرتبطة بالفكر والتراث والحضارة. بعبارة أخرى، إن ما يحدث من تدنيس للآثار هو جزء من سياسة المساخر الحاكمة لعديد الأمور. خذ مثلا الإمعان في هدم المقابر التاريخية، بكل ما يحمله أصحابها من قيمة وقامة، وبكل ما تشغله من زخارف وفنون، وذلك بحجة وضيعة للغاية، وهي بناء محور مروري أو جراج متعدد الطوابق. خذ أيضا تقطيع الأشجار العتيقة، وضرب كل ما من شأنه المحافظة على البيئة من جمال وخضار، بدعوى توسعة طريق، أو بتبرير من وزيرة البيئة الحالية، بأن التلوث الناجم عن اتساع الطرق مستقبلا، سيكون أقل من بقاء الأشجار في الطرق الحالية!!!
ثانيا: إن ما يحدث من أعمال ماجنة داخل المناطق السياحية، إنما هو خرق بين لدستور 2012 المعدل عام 2014، والذي ينص في المادتين 49 و50، على أن “تلتزم الدولة بحماية الآثار والحفاظ عليها، ورعاية مناطقها، وصيانتها، وترميمها، واسترداد ما استولي عليه منها، وتنظيم التنقيب عنها والإشراف عليه. ويحظر إهداء أو مبادلة أي شيء منها. والاعتداء عليها والاتجار فيها جريمة، لا تسقط بالتقادم”. وأن “تراث مصر الحضاري والثقافي، المادي والمعنوي، بجميع تنوعاته ومراحله الكبرى، المصرية القديمة، والقبطية، والإسلامية، ثروة قومية وإنسانية، تلتزم الدولة بالحفاظ عليه وصيانته، وكذا الرصيد الثقافي المعاصر المعماري والأدبي والفني بمختلف تنوعاته، والاعتداء على أي من ذلك جريمة يعاقب عليها القانون. وتولي الدولة اهتماما خاصا بالحفاظ على مكونات التعددية الثقافية في مصر.”
ثالثا: إن الناظر إلى ما يحدث للأماكن الأثرية اليوم من انتهاك لحرمة؛ طمعا في دخل أو استنزافا لموارد الناس، ربما يتوقع المرء بعده، أن يرى أماكن أثرية منسقة ومحدثة، ويتم صيانتها بانتظام. لكن الشاهد أن من يصول ويجول في أعماق، ما تركه الأجداد لا يجد سوى النذر اليسير من الصيانة والترميم، أو خيبة كبيرة في التعامل الفني مع أعمال الترميم. خذ على سبيل المثال، حال إهمال ترميم قصر إسماعيل باشا المفتش ومسجد الجيوشي ومساجد شارع المعز، والتعامل السيئ فنيا مع ذقن توت عنخ آمون، وتمثال سيتي الأول بالكرنك، وقصر البارون، ومؤخرا أسدي قصر النيل.. إلخ.
رابعا: إن إقامة الحفلات والأفراح داخل المناطق الأثرية، هو أمر فوق ما هو- من حيث المبدأ- ينتهك الأصالة، وينكل بالثقافة والتراث، هو أيضا يدنس تلك الأماكن بشكل يصعب أن يعيدها لرونقها. بل أنه يمكن القول، إن ما سيجلب من مال نظير تلك الحفلات، ربما لا يعوض كم الاتساخ والإهمال التي تتعرض له تلك الأماكن. فهذه قمامة، وهذا تخريب للزخارف بالكتابة عليها، وذاك تصوير ووسائل إضاءة ضارة بالنقوش والألوان الجدارية.
خامسا: يرتبط إهمال المناطق الأثرية والتراثية بعديد الأمور المتصلة بارتفاع تكلفة الأماكن البديلة التي يتعارف عليها أنها الأماكن الطبيعية لإقامة تلك المناسبات. فنوادي الجيش والشرطة وبعض النوادي الاجتماعية الأخرى، أصبحت ليست في مقدور الناس العادية، ما يجعل البعض، يلجأ إلى تلك الأماكن، فمعظمها أرخص سعرا، ويطمع الناس في شغلها بالحفلات بسبب تاريخها.
سادسا: إن ما يحدث من أعمال تلوث- آنفة الذكر- في المناطق الأثرية لهو أبلغ وسيلة للقضاء على السياحة الأجنبية. فعندما يرى السائح التراث والحضارة التي قدم إليها من آلاف الكيلومترات، تدنس وتحول لقاعات أفراح في المساء، فهؤلاء السياح يكونوا أهم سفراء لبلادهم لضرب السياحة المصرية، والقضاء على كل ما تقوم به أجهزة مصرية أخرى للترويج لها.
المصدر: مصر 360