مقالات ورأى

حسن نافعة يكتب: هل يمكن فصل الجبهة اللبنانية عن باقي ساحات المواجهة؟

يتبنّى تيّار في العالم العربي مقولة مفادها أن حزب الله أخطأ حين قرّر مساندة حركة حماس عسكرياً عقب عملية طوفان الأقصى. وبالتالي، تسبّب في اندلاع الأزمة الراهنة على الجبهة اللبنانية، ولولاه لما لحق بلبنان وشعبه كل ما لحق بهما من خرابٍ وتدميرٍ ومن قتل وتهجير، كأن إسرائيل ليست سوى كيان وديع ينفر من العنف، ولا يلجأ إلى استخدام القوة إلا دفاعاً عن النفس!. بل إن بعض ما يُكتب في وسائل الإعلام العربية، داخل لبنان وخارجه، يذهب إلى حد الادّعاء أن حزب الله هو المسؤول عن الشلل الذي أصاب مؤسّسات الدولة اللبنانية، ولولا تهوّره لما وطأت أقدام الجنود الإسرائيليين أرض لبنان. نسي هؤلاء أن بنية الدولة اللبنانية مُصابةٌ منذ نشأتها بأمراض عضال، وأن هذه الأمراض تُركت لتستفحل بمرور الوقت، وتناسوا أن حرباً أهلية اندلعت في لبنان قبل سنوات طويلة من تأسيس حزب الله، وأن هذه الحرب استمرّت نحو 15 عاماً وحصدت مئات آلافٍ من الأرواح، وأن حزب الله لم يكن قد ظهر بعد حين احتل الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان واجتاح بيروت العاصمة.

لحزب الله، شأن كل الأحزاب السياسية، اللبنانية وغيرها، رؤى وتصوّرات ومواقف سياسية واجتماعية قد نتفق أو نختلف معها، وهذا طبيعي. لذا من الوارد توجيه انتقاداتٍ له بسبب الاختلاف مع بعض مواقفه السياسية وتوجهاته الأيديولوجية أو بعضها، غير أننا يجب ألا نغفل، في الوقت نفسه، أن لهذا الحزب بالذات خصوصية تميّزه عن غيره من الأحزاب اللبنانية، بسبب الدور الكبير الذي لعبه من أجل تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، وما تكبّده من تضحيات بشرية ومادية هائلة من أجل تحقيق هذا الهدف النبيل. ولأن ما قام به، على هذا الصعيد، يعدّ دوراً وطنياً وقومياً ودينياً وإنسانياً، ينبغي أن يكون محلّ تقدير وإجماع وطني، وليس موضعاً لتجاذبات أو مماحكات، خصوصاً أن الساحة اللبنانية لم تخلُ من أحزابٍ وتياراتٍ تعاونت مع العدو، بل وقاتلت إلى جانبه.

في سياقٍ كهذا، يصبح من العسير تفهّم وجهة النظر التي تطالب حزب الله بتسليم سلاحه الآن إلى الدولة اللبنانية، وترى أن خطوة كهذه يمكن أن تسهم في دعم المساعي الرامية إلى التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار على الجبهة اللبنانية، لكنها في الواقع دعوة حقٍّ يُراد بها باطل. صحيحٌ أن الدولة اللبنانية، شأن كل الدول الطبيعية في العالم المتحضّر، ينبغي لها أن تحتكر أدوات القوة المسلحة باعتبارها الجهة الوحيدة التي يحقّ لها استخدامها شرعاً، غير أن هذا الاحتكار ينبغي أن يرتبط عضوياً بقدرة الدولة على حماية مواطنيها والدفاع عن حدودها. ولذلك، من الطبيعي ربط أي نقاش موضوعي بشأن نزع سلاح المليشيات، كل المليشيات، وليس سلاح حزب الله وحده، بشرط توفر توافق وطني عام حول سبل إعادة بناء مؤسّسات الدولة اللبنانية، وبما يضمن وجود جيش لبناني قوي وقادر على الدفاع عن حدود الوطن، خصوصاً التي تفصله عن كيان مغتصب للأراضي الفلسطينية وطامع في الأراضي اللبنانية في الوقت نفسه، وعلى حماية مواطنيه من شرور هذا الكيان.

تلك كانت مقدّمة ضرورية هدفها التمهيد لمناقشة الفكرة الرئيسية لمقال اليوم، عن الأسباب التي دعت حزب الله إلى تقديم مساندة عسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزّة عقب عملية طوفان الأقصى. وفي تقدير كاتب هذه السطور أن حزب الله لم يستند، في قراره هذا، إلى حسابات عاطفية تتعلق بمشاعر قومية أو دينية، أو إلى حساباتٍ تحرّكها دوافع إقليمية، تتعلق بالرغبة في توسيع نفوذ إيران والدفاع عن مصالحها في المنطقة، كما يدّعي بعضهم، وإنما استند إلى حسابات استراتيجية كبرى، تتعلق بالأبعاد الجيوسياسية لعملية طوفان الأقصى، ولتأثيراتها المحتملة على موازين القوى في المنطقة ككل، بما في ذلك التوازنات الداخلية في لبنان. فعلى الرغم من أن قرار تنفيذ هذه العملية كان حمساوياً صرفاً لم يجر التشاور بشأنه مسبقاً مع أي جهة، إلا أن أمين عام الحزب آنذاك، حسن نصر الله، أدرك، على الفور، أنها حدثٌ غير مسبوقٍ في تاريخ الصراع سيكون له ما بعده حتماً، من ثم توقع أن يأتي ردّ فعل الكيان الصهيوني عنيفاً وجامحاً وغير منضبط، وبالتالي، لن يقتصر على قطاع غزّة، والأرجح أن يستدير جيش الكيان لتصفية حساباته مع حزب الله بمجرّد أن يفرغ من أداء مهمّته في القطاع، بادر الحزب بمساندة “حماس” أو لم يفعل. وما حدث من تطوّرات لاحقة رجّح دقّة هذه الحسابات، فقد تبيّن أن الحكومة الأكثر تطرّفا في تاريخ إسرائيل، والتي تشكلت بقيادة نتنياهو قبل عشرة أشهر من اندلاع “طوفان الأقصى”، كانت تخطّط لضم المستوطنات، ومعها أجزاء واسعة من الضفة الغربية، ولإقامة “الهيكل الثالث” على أنقاض المسجد الأقصى الذي اقتحمته بشكل متكرّر واستفزازي. معنى ذلك أن مبادرة نصر الله ببدء أعمال عسكرية انطلاقاً من جنوب لبنان، وفي حدود ما يسمح به تماسك الجبهة الداخلية، كانت عملا استباقياً أو وقائياً، ارتبط، في الوقت نفسه، بجهودٍ بُذلت لتنشيط العمل العسكري على جبهات أخرى، خاصة في اليمن والعراق.

لا يتسع المقام هنا لعمل جردة حساب لكل ما أنجزته فصائل المقاومة على مختلف الجبهات، خاصة على الجبهة اللبنانية التي تحمّلت العبء الرئيسي للمواجهة بعد الجبهة الفلسطينية، غير أن المؤكد أن تفعيل وحدة الساحات أصاب الكيان الصهيوني بالارتباك، ومن ثم حاول تأجيل الحسم مع حزب الله إلى ما بعد تحقيق “الانتصار المطلق” على “حماس” ودفعه، في الوقت نفسه، إلى بذل جهود دبلوماسية تستهدف فكّ الارتباط بين الجبهتين، اللبنانية والفلسطينية، وعندما فشل في تحقيق أيٍّ من هذه الأهداف، قرّر مواصلة خوض الحرب على كل الجبهات، وقرّر التركيز على الجبهة اللبنانية اعتباراً من سبتمبر/ أيلول الماضي. وحين نجح في إحداث خلخلةٍ كبرى داخل مراكز القيادة والسيطرة لحزب الله، عبر تفجيرات البيجرز وأجهزة الاتصال اللاسلكية وعمليات الاغتيال التي طاولت عديدين من القيادات الميدانية والسياسية الكبرى، بما في ذلك حسن نصر الله نفسه، أمينه العام الذي تمتّع بكاريزما هائلة على كل المستويات، الوطنية والقومية والإسلامية، تصوّر الكيان أن الحزب بات يترنّح ويوشك على الخروج نهائياً من معادلات السياسات الإقليمية في المنطقة، وهو ما يفسّر قراره ببدء عملية اجتياح برّي واسعة، وصدرت عن قياداته السياسية والعسكرية تصريحات إعلامية تفيد بأن الهدف من هذه العملية تدمير الحزب، غير أن سير العمليات الميدانية في الأسابيع التالية أكّد أن الحزب استعاد تماسكه سريعاً، وأن آليات القيادة والسيطرة عادت لتعمل بالكفاءة المعهودة نفسها، وراح يتّضح، رويداً رويداً، أنه ما زال قادراً ليس على إفشال محاولات الكيان للسيطرة على منطقةٍ عازلةٍ آمنة فحسب، ولكن أيضاً على إطلاق الصواريخ والمسيّرات التي يمكن أن تطاول كل شبر في الكيان، وبالمعدّلات التي يريدها. هنا بدأت أحلام الكيان تتراجع وتقتصر أهدافه المعلنة على محاولة فكّ الجبهتين، اللبنانية والفلسطينية، وإبعاد قوات حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، مع تمكين الجيش اللبناني من السيطرة على المنطقة الحدودية وضمان خلوّها من أي نشاط مسلح، بمساعدة قوات الأمم المتحدة (يونيفيل)، وهو ما يفسّر عودة المبعوث الأميركي هوكشتاين للتوسّط.

لو كان بمقدور الجيش الإسرائيلي تحطيم حزب الله بقوة السلاح لتمكّن من فرض شروطه دونما حاجة لجهود المبعوث الأميركي، الضابط السابق في الجيش الإسرائيلي، خاصة أن زيارته انطلقت بُعيد إعلان فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، وتحوّل إدارة بايدن إلى “بطّة عرجاء”… ويبدو واضحا مما أدلى به، الأربعاء الماضي، أمين عام حزب الله نعيم قاسم بأن الحزب لم يعد يشترط وقف إطلاق النار في غزّة أولاً، وأنه يتفق مع موقف الحكومة اللبنانية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار على الجبهة اللبنانية على أساس التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن 1701. غير أنه يتعين الانتباه إلى مسألة أساسية، أن معنى التنفيذ الكامل للقرار انسحاب إسرائيل إلى ما وراء الخط الأزرق، ما يعني ضرورة التوصل ليس إلى تسويةٍ بشأن موقع العلامات المختلف عليها فحسب، وإنما أيضا وضع مزارع شبعا تحت إدارة قوات يونيفيل، والتوقف الكامل للأنشطة الإسرائيلية التي تهدف إلى مراقبة ما يجري على حدود لبنان البرّية والبحرية والجوية. ولا نعتقد أن الكيان الصهيوني أصبح ناضجاً ومستعدّا لقبول هذا التفسير للقرار 1701، لأن ذلك معناه أن موقف حزب الله كان مبرّراً، ولولا تدخّله في الأزمة الراهنة، لما تمكّن لبنان من استعادة ما تبقّى من أراضيه المحتلة.

الوقت مبكّرٌ للجزم بأن الأوضاع على الجبهة اللبنانية أصبحت ناضجةً للتوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار يؤدّي إلى فصلها عملياً عن الجبهة الفلسطينية. صحيحٌ أن الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية في لبنان يدفع حزب الله، في الظروف الحالية، إلى القبول بفكرة الفصل نظرياً بين الجبهتين، لكن إسرائيل لن تقبل مطلقاً فكرة سيادة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها، والامتناع، بالتالي، عن التدخّل في الشؤون الداخلية للبنان، إلا إذا أجبرت على ذلك عسكرياً. لذا المرجّح أن تكون الكلمة النهائية للميدان وليس للجهود الدبلوماسية، والمرجّح أن يحاول نتنياهو كسب مزيد من الوقت حتى يحين موعد دخول ترامب البيت الأبيض، خصوصاً أن الفريق الذي اختاره لمعاونته يبدو صهيونياً أكثر من أعضاء في حكومة نتنياهو نفسها.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى