الفلاح المصري، الذي كان يوماً ما عصب الحياة الزراعية في البلاد، يعاني اليوم من أزمات متتالية تهدد حياته المعيشية واستمراره في مهنته التي ورثها عن أجداده.
لقد أصبحت الزراعة عبئًا ثقيلًا على كاهله بدلاً من أن تكون مصدرًا للاستقرار والرزق، في ظل تقاعس واضح من الجهات المعنية التي تخلت عن مسؤولياتها تجاهه، وفساد مستشرٍ يلتهم دعمه المفترض.
إن تكلفة الزراعة لم تعد تحتمل، بداية من تجهيز الأرض، مروراً بشراء التقاوي، وصولاً إلى الارتفاع الجنوني في أسعار الوقود وأجرة العمالة.
هذه الأزمة المتفاقمة جعلت العديد من الفلاحين عاجزين عن الاستمرار في زراعة أراضيهم، بل وجعلتهم يفكرون في تأجيرها أو بيعها للهروب من دائرة الديون التي تحاصرهم.
أزمة مياه الري تهدد بوار أراضٍ واسعة في الفيوم
كان مزارعو الفيوم يعيشون في نعيم الإنتاج الزراعي الوفير الذي اعتادت أراضيهم الخصبة تقديمه. الفيوم التي تُعد واحدة من أخصب الأراضي الزراعية في مصر، وتتميز بخصوبة أرضها وملاءمتها لزراعة جميع أنواع المحاصيل، أصبحت اليوم مهددة بالتحول إلى صحراء قاحلة.
الأزمة هنا ليست وليدة اللحظة، بل تتفاقم عاماً بعد عام، حيث يعاني الفلاحون من نقص مياه الري بشكل حاد، خاصة في نهايات الترع والمصارف التي لم تعد تصل إليها المياه كما كانت في السابق.
على الرغم من أن الفيوم تعتبر واحة مصر الخضراء بفضل وجود بحر يوسف، وهو أحد أهم روافد النيل، إلا أن هذا المصدر الرئيسي لمياه الري لم يعد كافياً بسبب الإهمال الحكومي في توزيع المياه بشكل عادل بين جميع المناطق الزراعية.
الفلاحون في الفيوم يعانون من إهمال تام في متابعة احتياجاتهم، مما أدى إلى تلف مساحات شاسعة من المحاصيل. وفي الوقت نفسه، زاد ارتفاع أسعار الأسمدة المدعمة التي يتوجب على الفلاح الحصول عليها من السوق السوداء بعد أن تجاوز سعر الشيكارة الواحدة 1200 جنيه، الأمر الذي يُعد كارثة أخرى تُضاف إلى قائمة الأزمات التي يعيشها الفلاح المصري.
شح مياه الري والأسمدة يجبر الفلاحين على اللجوء للسوق السوداء
الفلاح المصري، الذي اعتاد سابقاً على تلقي الدعم اللازم من الدولة، وجد نفسه مضطراً للتوجه إلى السوق السوداء للحصول على مستلزمات الزراعة بعد أن أغلقت الجمعيات الزراعية أبوابها في وجهه.
تآكلت الثقة بين الفلاح والجمعيات الزراعية، وأصبح الاعتماد على أسواق غير رسمية هو الحل الوحيد المتبقي للفلاحين الذين تتآكل أرباحهم شيئاً فشيئاً بسبب الارتفاع الجنوني في أسعار الأسمدة والكيماويات والتقاوي.
ويشير عدد من المزارعين إلى أن نقص مياه الري في نهايات الترع أصبح كارثة تهدد آلاف الأفدنة بالبوار. الصيف الماضي كان شاهداً على هذه الكارثة، حيث تزامن نقص المياه مع ارتفاع شديد في درجات الحرارة، ما أدى إلى تلف محاصيل الذرة والقطن والعديد من المحاصيل الأخرى.
ورغم الوعود الحكومية بمعالجة الأزمة، لم يتم اتخاذ أي خطوات جادة لحل مشكلة نقص المياه حتى الآن، ولا تزال الأراضي في نهايات الترع والمصارف عرضة للتلف نتيجة الجفاف.
الديون تحاصر الفلاحين في الإسماعيلية
الوضع في الإسماعيلية لا يختلف كثيراً عن الفيوم. هنا أيضاً يعاني الفلاحون من الارتفاع الفاحش في تكاليف الزراعة، والتي أدت إلى تراكم الديون على كاهلهم بشكل يصعب التخلص منه.
يشير الفلاحون إلى أن تكلفة زراعة فدان من الطماطم مثلاً كانت لا تتجاوز 500 جنيه قبل عدة عقود، لكنها اليوم تتجاوز 100 ألف جنيه، بسبب ارتفاع أسعار كل شيء من الأسمدة إلى الأيدي العاملة.
يقول أحد الفلاحين في الإسماعيلية إنه لم يعد بمقدوره زراعة أرضه، بل اضطر إلى تأجيرها للآخرين، بينما يعمل هو كعامل يومي لتغطية احتياجاته الحياتية الأساسية.
وبالرغم من الوعود الحكومية المتكررة بتوفير دعم للفلاحين، إلا أن الحقيقة على الأرض تختلف تماماً. الفساد المستشري في النظام الزراعي يحول دون وصول الدعم إلى مستحقيه، كما أن البنوك الزراعية التي من المفترض أن تقدم قروضًا ميسرة للفلاحين لم تعد تقوم بدورها بشكل فعّال.
محاصيل مهدرة وأعباء مالية تتزايد مع مرور الوقت
في الوقت الذي يتطلع فيه الفلاحون إلى أي دعم من الحكومة، يجدون أنفسهم محاصرين بالمزيد من الأعباء المالية التي تزداد يوماً بعد يوم.
على سبيل المثال، فدان القطن الذي كان ينتج 8 قناطير سابقاً أصبح بالكاد ينتج 3 قناطير الآن، نتيجة التدهور الكبير في نوعية التقاوي.
الفلاحون باتوا عاجزين عن تحمل تكاليف الزراعة، خاصة مع ارتفاع أسعار الأسمدة الكيماوية إلى 1100 جنيه للشيكارة الواحدة، وتضخم أسعار الأيدي العاملة التي تتطلب 100 جنيه لكل أربع ساعات من العمل.
هذه الأعباء تجعل الفلاحين يعزفون تدريجياً عن زراعة القطن وغيره من المحاصيل التي كانت تُعد عصب الاقتصاد الزراعي المصري، حيث لم يعد بالإمكان تحصيل الأرباح التي تمكنهم من سداد الديون المتراكمة عليهم.
غموض المستقبل الزراعي وزيادة الأعباء الاقتصادية
تراجع دعم الفلاحين من قبل الحكومة أدى إلى حالة من الغموض تحيط بمستقبل الزراعة في مصر. المحاصيل الأساسية التي كانت تسهم في تحقيق الأمن الغذائي أصبحت مهددة بالتراجع بشكل كبير، مما قد يؤثر سلباً على الاقتصاد الوطني ككل.
الفلاحون يطالبون بتدخل عاجل من الحكومة لإعادة تفعيل الزراعة التعاقدية التي من شأنها ضمان استقرار أسعار المحاصيل وزيادة دخل الفلاحين.
كما أن عودة الدورة الزراعية أصبحت مطلبًا أساسيًا للفلاحين، حيث كانت تُسهم في تنظيم زراعة المحاصيل وتوزيع المياه بشكل عادل.
وفي ظل تقاعس الحكومة عن اتخاذ خطوات ملموسة لحل أزمة نقص مياه الري والأسمدة، فإن استمرار الوضع الحالي يهدد بتحويل آلاف الأفدنة إلى أراضٍ بور.
البنوك الزراعية تفاقم من أزمة الديون دون حلول جذرية
البنوك الزراعية التي من المفترض أن تكون جزءًا من الحل أصبحت اليوم جزءًا من المشكلة. إذ أعلنت البنوك الزراعية أنها قدمت قروضًا بقيمة 2.9 مليار جنيه لدعم مزارعي قصب السكر، لكنها في الواقع تفرض شروطاً تعجيزية على الفلاحين، وتلزمهم بتوريد المحاصيل بأسعار منخفضة، مما يزيد من أعبائهم المالية.
البنك الزراعي، الذي يُفترض أن يكون شريكًا للفلاح في تحسين مستواه المعيشي، بات يُحاسب الفلاحين بالفائدة العادية في حال فشلهم في الالتزام بالشروط التعجيزية التي يفرضها عليهم، دون أن يأخذ في الاعتبار الظروف الصعبة التي يمرون بها.
هذا التعامل المجحف يدفع العديد من الفلاحين إلى التخلي عن أراضيهم، أو حتى البحث عن مهن أخرى بعيداً عن الزراعة التي أصبحت عبئاً بدلاً من أن تكون مصدر رزق مستدام.
الزراعة الحديثة لم تعد تنقذ الفلاحين من مستنقع الفقر
رغم الجهود الحكومية التي تُبذل على استحياء لدعم أساليب الزراعة الحديثة، مثل الزراعة بالتسطير التي تساهم في زيادة إنتاجية محاصيل مثل القمح، إلا أن هذه الجهود لم تصل بعد إلى الفلاحين بشكل كافٍ.
الفلاحون الذين استفادوا من هذه الأساليب يؤكدون أن الزراعة الحديثة تُقلل التكاليف وتُضاعف الإنتاج، لكنها ليست متاحة للجميع، خاصة في المناطق النائية التي تُعاني من نقص الإرشاد الزراعي.
كما أن الفلاحين الذين نجحوا في زيادة إنتاجهم من القمح بفضل الزراعة الحديثة يواجهون تحديات أخرى، مثل نقص مياه الري وارتفاع أسعار المحروقات والأسمدة، مما يُعيق استفادتهم الكاملة من هذه التقنيات.
ارتفاع تكاليف الزراعة يقود الفلاح المصري إلى شفير الهاوية
الوضع الحالي للفلاح المصري يُعد كارثيًا بكل المقاييس. الحكومة، التي من المفترض أن تكون السند والداعم الرئيسي للفلاحين، تقاعست عن دورها وتركتهم فريسة للديون وارتفاع التكاليف.
الفساد المستشري في المؤسسات الزراعية والبنوك الزراعية يُفاقم من معاناة الفلاحين ويهدد مستقبل الزراعة في مصر بشكل عام.
الحلول المؤقتة التي تُقدم للفلاحين لم تعد كافية، ويجب على الحكومة اتخاذ خطوات جادة وفورية لحل هذه الأزمات المتراكمة، وإلا فإن الزراعة المصرية ستواجه مستقبلًا قاتمًا، وسيكون الفلاح أول الضحايا.