تقاريرمصر

تقرير : صندوق النقد الدولي: بين القبول والرفض.. تجارب دولية وتحديات مصرية

مجموعات التحفيز

في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها مصر اليوم، يُثار الجدل حول فعالية توصيات صندوق النقد الدولي ومدى توافقها مع احتياجات البلاد. وبرغم نجاح بعض الدول في تحقيق الاستقرار الاقتصادي عبر التعاون مع الصندوق، فإن هناك تجارب مميزة لدول أخرى رفضت هذه التوصيات وتمكنت من بناء نماذج اقتصادية مستقلة وناجحة. يناقش هذا التقرير وضع مصر الحالي، مع استعراض التجارب الدولية الناجحة، مثل ماليزيا وآيسلندا.

الإصلاحات الاقتصادية في مصر بين المعلن والمطبق

منذ أن بدأت مصر برنامجها الإصلاحي مع صندوق النقد الدولي في عام 2016، تواجه البلاد مزيجًا من المكاسب قصيرة المدى والأعباء طويلة الأجل. فعلى سبيل المثال ارتفعت الاحتياطيات الأجنبية وزادت الاستثمارات الخليجية، لكن الديون الخارجية تصاعدت إلى مستويات مقلقة، وأصبح الاقتصاد المصري أكثر اعتمادًا على التمويل الخارجي. في الوقت نفسه، تفاقمت المشكلات الاقتصادية الأساسية، مثل الفساد وضعف الإنتاجية، في ظل سيطرة الجيش على قطاعات واسعة من الاقتصاد. 

في عام 2023، أعلن صندوق النقد الدولي عن شروط جديدة تهدف إلى تقليل هيمنة الجيش على الاقتصاد المصري وتحسين الشفافية. تضمنت الشروط إدراج الشركات المملوكة للجيش ضمن قائمة الكيانات الخاضعة للإصلاحات العامة. كذلك، أُلغيت الإعفاءات الضريبية والمالية الممنوحة لتلك الشركات، مما يمهد الطريق لتنافس أكثر عدالة مع القطاع الخاص. 

ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر يكمن في التنفيذ. يشير خبراء اقتصاديون إلى أن صندوق النقد غالبًا ما يكون صارمًا في صياغة شروطه لكنه متساهل في مراقبة تطبيقها. مثال على ذلك، التزام مصر في عام 2020 بنشر تفاصيل الإنفاق الحكومي المرتبط بجائحة كورونا، وهو التزام أُنجز جزئيًا فقط. 

وفي مارس 2024، كان الصندوق قد وافق على مضاعفة حزمة الإنقاذ المالي المقررة لمصر لتصبح 8 مليار دولار صعودا من 3 مليار دولار، وذلك بغرض إنقاذ مصر من أكبر أزمة اقتصادية تمر بها في العشر سنوات الأخيرةـ وخاصة عقب الظروف الإقليمية الأخيرة.

وقبل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، أجبرت الضغوط الاقتصادية المتزايدة الحكومة على تغيير استراتيجياتها، بما في ذلك تجميد بعض المشروعات الضخمة المكلفة التي أمر بها الرئيس عبد الفتاح السيسي، مثل العاصمة الإدارية الجديدة التي كان مقررا لها أن تفتتح عام 2020، وفق ما أعلنته الحكومة وقت بدء العمل بها، وهو ما يدل على القصور الكبير في معرفة مقدرة الدولة بشكل حقيقي.

ومن بين هذه الشروط التي مارسها صندوق النقد ـ كأحد وسائل الضغط ـ كان تشجيع نمو القطاع الخاص من خلال إنهاء المزايا التنافسية التي تتمتع بها الشركات المملوكة للجيش المصري.

ويرى العديد من المراقبين أن سوء الإدارة، بما في ذلك الإفراط في الإنفاق على المشروعات الضخمة والاعتماد طويل الأمد على الواردات، جعل مصر عرضة للصدمات الخارجية المتكررة. إلى جانب الحرب في غزة، جاءت جائحة فيروس كورونا وحرب أوكرانيا لتؤثر على السياحة واستيراد القمح الضروري.

 ويشير العديد من المحللين إلى أن الإفراط في الإنفاق على مثل هذه المشروعات جعل مصر عرضة للصدمات الخارجية.

دافع الرئيس السيسي مرارًا عن سياسات حكومته، قائلاً إن الانتفاضة الشعبية عام 2011 التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك أدت إلى حالة طويلة الأمد من عدم الاستقرار الاقتصادي. لكن على المستوى الشعبي، في التفاعلات اليومية في شوارع القاهرة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، يلوم العديد من الناس الرئيس، متهمين إياه بالإنفاق على مشروعات استعراضية وإضعاف الاقتصاد إلى درجة تهدد نفوذ مصر في المنطقة.

اقتصاد مترنح واعتماد متزايد على التمويل الخارجي

تظهر البيانات أن الاقتصاد المصري يعاني من أزمات متراكمة: 

– التضخم: سجل معدل التضـخم السنوي لإجمالي الجمهورية 26.3% لشهر أكتوبر 2024، وتوقع استطلاع لوكالة “رويترز” أن يبلغ التضخم السنوي في المدن المصرية 20.4 % في 2024-2025 و11.4% في 2025-2026.

– العملة: انخفضت قيمة الجنيه المصري من حوالي 30 جنيه بنهاية يناير 2023 إلى 49.50 وفق آخر تحديث في نوفمبر 2024.

وعلى مدى الثمانية عشر شهرًا الماضية، تسببت أزمة حادة في نقص العملات الأجنبية في مصر، التي تعتمد بشكل كبير على الواردات، في ارتفاع هائل في الأسعار وزيادة القلق بشأن المستقبل. تضاعفت تكلفة بعض المواد الغذائية الأساسية أربع مرات، وبلغت أعباء الديون مستويات قياسية، وفقدت العملة المحلية نسبة كبيرة من قيمتها، مما أدى إلى تآكل القوة الشرائية لدخول الأفراد وقيمة مدخراتهم مدى الحياة.

– الديون: ارتفعت الديون الخارجية من 39.6 مليار دولار في 2014 إلى 160 مليار دولار في 2023، وكان من المتوقع أن تزداد أكثر في العام الحالي 2024.

وهنا يُذكر أن الدين الخارجي لمصر قد انخفض خلال النصف الأول من العام الحالي إلى 152.9 مليار دولار، مقارنة بـ 168 مليار دولار بنهاية عام 2023، بدعم من صفقة رأس الحكمة التي أدت إلى تدفق 24 مليار دولار لمصر، بالإضافة إلى تحويل ودائع إماراتية بالدولار إلى الجنيه المصري.”

ـ أصبح الاعتماد على القروض الخارجية أمرًا أساسيًا لاستقرار الاقتصاد، حيث تُستخدم القروض الجديدة غالبًا لسداد ديون سابقة وفوائدها، بدلاً من تمويل مشروعات إنتاجية.  

وتعد سيطرة الجيش المصري على قطاعات واسعة من الاقتصاد من أهم ما يبرز في الحالة المصرية ومحل انتقاد واسع، فسيطرته تشمل الإنشاءات، الزراعة، والصناعات الثقيلة. هذه السيطرة تُضعف القطاع الخاص، وتقلل من كفاءة الاقتصاد ككل.

في الاتفاق الأخير مع صندوق النقد، التزمت الحكومة بإدخال الشركات التابعة للجيش ضمن إطار الشفافية والإصلاح، لكن التنفيذ الحقيقي لهذه الخطوات يبقى موضع تساؤل. 

يشير تقرير صندوق النقد إلى أن الدور المتزايد للجيش في الاقتصاد يعوق المنافسة العادلة ويؤدي إلى إهدار الموارد. يقول بول كروغمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد: “الهيمنة العسكرية على الاقتصاد تقوض فرص النمو وتعيق الإصلاحات الضرورية.”

رفض سياسات صندوق النقد الدولي.. ماليزيا وآيسلندا نموذجا

أظهرت التجارب أن رفض بعض الدول توصيات صندوق النقد الدولي قد يكون له نتائج إيجابية. على سبيل المثال، رفضت ماليزيا خلال الأزمة المالية الآسيوية في تسعينيات القرن الماضي تدخل الصندوق، وبدلاً من ذلك، اتبعت سياسات اقتصادية مستقلة، مما ساعدها على التعافي السريع وتحقيق نمو اقتصادي مستدام. كذلك، اختارت آيسلندا بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 عدم الالتزام الكامل بتوصيات الصندوق، وركّزت على حماية نظامها الاجتماعي، مما ساعدها على التعافي بشكل أسرع.

 قراءة في التجربة الماليزية

تُعد تجربة ماليزيا في مواجهة الأزمة المالية الآسيوية في أواخر التسعينيات مثالًا بارزًا على كيفية التعامل مع الأزمات الاقتصادية دون الاعتماد على سياسات صندوق النقد الدولي. اختارت ماليزيا، بقيادة رئيس الوزراء مهاتير محمد، طريقًا مستقلاً بعيدًا عن توصيات الصندوق، مما أثمر عن نتائج إيجابية جعلتها من أولى الدول المتعافية من الأزمة.

في عام 1997، اندلعت الأزمة المالية الآسيوية بشكل مفاجئ، متسببة في انهيار العملات المحلية وأسواق الأسهم، إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة والتضخم. رغم تأثير الأزمة على الاقتصاد الماليزي، كانت مؤشرات الاقتصاد الكلي قبل الأزمة قوية، حيث حقق الناتج المحلي الإجمالي معدلات نمو مرتفعة وصلت إلى 10% في 1996، مع انخفاض نسبة البطالة إلى 2.5%.

واتخذت الحكومة الماليزية مسارا آخر بدلاً من قبول مساعدات الصندوق وشروطه التي تضمنت تحرير الأسواق وفرض سياسات تقشفية، فقررت تبني خطة إنقاذ وطنية مستقلة. تضمنت الخطة تثبيت سعر صرف الرينجت الماليزي، وتقييد حركة رؤوس الأموال، وإنشاء وكالات اقتصادية لإدارة الديون المتعثرة وإعادة بناء القطاع المصرفي. 

هذا النهج المستقل مكّن ماليزيا من تقليل تداعيات الأزمة الاقتصادية وتعافيها السريع بحلول عام 1999، حيث سجلت نموًا اقتصاديًا بلغ 6.1%، متجاوزة مثيلاتها من الدول المتضررة كإندونيسيا وتايلاند.

ومن أبرز دوافع الرفض الماليزي لسياسات الصندوق

  1. 1. عدم ملاءمة السياسات: رأى صناع القرار الماليزيون أن توصيات الصندوق كانت أحد أسباب الأزمة، حيث ضغط الصندوق على ماليزيا لتحرير أسواقها المالية قبل استعدادها لذلك.
  2. 2. تعزيز السيادة: اعتبرت ماليزيا أن قبول شروط الصندوق يتعارض مع الديمقراطية والسيادة الوطنية.
  3. 3. الاستقلالية الاقتصادية: فضلت ماليزيا الاعتماد على حلول داخلية تعزز الثقة بالنفس وتجنبها الانصياع لإملاءات دولية.

تؤكد التجربة الماليزية أن السياسات الاقتصادية المستقلة قد تكون أكثر فعالية من الامتثال الصارم لتوصيات المؤسسات الدولية، خاصة إذا تم تصميمها لتناسب الخصوصية الوطنية. وتبرز أهمية تعزيز الشفافية والسيادة والاستثمار في بناء اقتصاد مستدام بعيد عن الاعتماد المفرط على القروض الخارجية.

آيسلندا: مواجهة الأزمة بثبات

في 2008، سمحت آيسلندا للبنوك بالإفلاس بدلًا من إنقاذها بأموال دافعي الضرائب، وركزت على حماية الخدمات الاجتماعية. هذه السياسة عززت الثقة العامة وساعدت البلاد على التعافي بحلول 2011. 

في عام 2008، واجهت آيسلندا أزمة مالية حادة أدت إلى انهيار بنوكها الرئيسية الثلاثة: كاوبثينغ، ولاندسبانكي، وجليتنير. تجاوزت ديون هذه البنوك الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بأكثر من سبعة أضعاف، حيث بلغ الدين الخارجي 9.553 تريليون كرونة آيسلندية (حوالي 50 مليار يورو) في نهاية الربع الثاني من عام 2008.

استجابةً للأزمة، لجأت الحكومة الآيسلندية إلى صندوق النقد الدولي للحصول على دعم مالي. في نوفمبر 2008، وافق الصندوق على حزمة إنقاذ بقيمة 2.1 مليار دولار، مع تقديم 827 مليون دولار فورًا والباقي على دفعات مرتبطة بتنفيذ إصلاحات اقتصادية. تضمنت هذه الإصلاحات تدابير تقشفية، وإعادة هيكلة النظام المصرفي، وفرض ضوابط على رأس المال للحد من هروب الأموال.

واعتمدت آيسلندا على نهج فريد في التعامل مع الأزمة:

  1. رفض إنقاذ البنوك الكبرى: رفضت الحكومة تقديم أموال عامة لإنقاذ البنوك التي تسببت في الأزمة. وبدلاً من ذلك، سمحت للبنوك بالإفلاس وأعادت هيكلتها بحيث تركز فقط على دعم الاقتصاد المحلي.
  2. تثبيت العملة: فرضت الحكومة قيودًا صارمة على حركة رؤوس الأموال، مما حال دون مزيد من انهيار العملة المحلية.
  3. التفاوض مع صندوق النقد: حصلت آيسلندا على قرض بقيمة 1 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، لكنها فرضت شروطها الخاصة، مثل حماية نظام الرعاية الاجتماعية وتجنب سياسات التقشف الحادة.

وكان أحد أبرز ملامح التجربة الآيسلندية محاسبة المسؤولين عن الأزمة. تم تشكيل لجنة تحقيق مستقلة لتحديد الأسباب والمتسببين في الانهيار، وأُدين بعض المسؤولين التنفيذيين في البنوك الكبرى بالسجن. عزز هذا الإجراء ثقة الشعب في النظام السياسي والاقتصادي.

وعلى الرغم من صعوبة الإجراءات التي اتخذتها آيسلندا، كانت النتائج إيجابية للغاية:

  • بحلول 2011، حقق الاقتصاد نموًا بنسبة 9%، وهو أحد أسرع معدلات التعافي بين الدول الأوروبية.
  • انخفضت البطالة إلى 4% بحلول 2014.
  • استعادت الكرونا جزءًا كبيرًا من قيمتها، مع تحقيق فائض في ميزان المدفوعات.

 

دروس مستفادة من تجريه آيسلندا

  1. الأولوية للمواطنين: وضعت آيسلندا حماية المواطنين فوق أي اعتبار، وهو ما ساهم في الحفاظ على النسيج الاجتماعي أثناء الأزمة.
  2. رفض الامتثال الأعمى: أظهرت آيسلندا أن الدول الصغيرة يمكنها التفاوض مع المؤسسات الدولية بدلاً من الانصياع الكامل لشروطها.
  3. الشفافية والمساءلة: عززت محاسبة المسؤولين ثقة المواطنين في قدرة الحكومة على إدارة الأزمات بشكل عادل.

الخاتمة: فرصة لإعادة التفكير في المسار

الحلول الممكنة لمصر: نحو إصلاح جذري وشامل

  1. 1. تعزيز الشفافية والمساءلة

يجب إنشاء نظام إلكتروني لتتبع الإنفاق الحكومي وضمان كفاءة استخدام الأموال، بما في ذلك الشركات المملوكة للدولة. 

  1. 2. إعطاء فرصة أكبر للقطاع الخاص

إعادة توازن العلاقات بين القطاعين العام والخاص عبر تقليل الامتيازات الممنوحة للجيش وإخضاع مؤسساته للمنافسة العادلة. 

  1. 3. تطوير القطاع الإنتاجي

دعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة لتقليل الاعتماد على الواردات، وزيادة الصادرات. 

  1. 4. إشراك الخبراء والمجتمع المدني

التوجه نحو سياسات اقتصادية تستند إلى رأي الخبراء وتشارك المواطنين في القرارات الكبرى. 

 بينما تسعى مصر للحصول على دفعات جديدة من صندوق النقد الدولي، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن تحقيق إصلاحات حقيقية تتجاوز الحلول المؤقتة؟ الإجابة تكمن في القدرة على مواجهة المشكلات الهيكلية، وتقليل الاعتماد على التمويل الخارجي، وإشراك جميع الأطراف في عملية الإصلاح. 

إن التحديات الحالية قد تكون فرصة لتغيير النهج، والاعتراف بأن السياسات الأمنية وحدها لن تحقق النمو الاقتصادي، وأن الشفافية والمساءلة هي السبيل نحو مستقبل مستدام. 

المصدر

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى