مقالات ورأى

هشام جعفر يكتب: الدولة المفترسة ومنظومة العدالة في مصر

في مقالي الخامس عن استباحة العدالة الجنائية في مصر بعد ٢٠١٣؛ استكمل الاستراتيجيات الست التي خطتها الجمهورية الجديدة لتمام فعل الاستباحة. بسطت الكلام في المقالين السابقين عن: دور الحرب على الإرهاب في التطبيع مع حالة الاستثناء التي أدت في النهاية إلى انتفاء الحدود الفاصلة بين دولة الامتياز ودولة القانون. لعبت الرئاسة دورا مركزيا في النظام الجديد بما أدي إلى تبديد الميراث التاريخي للدولة المصرية الذي قام على وجود تمييز بين الدولة والنظام وبين القيادة، وجرى دمج السلطة القضائية في السلطة التنفيذية، وهيمنة الأخيرة على الأولى.

في هذا المقال؛ أناقش علاقة العدالة بثلاثة مكونات تتأثر بهم: طبيعة الاقتصاد السياسي للجمهورية الجديدة، ووضع الموظف العام الذي يناط به تطبيقها، وأخيرا قسوة العقوبات.

الملاحظ على تعديلات قانون الخدمة المدنية ٢٠٢١، فيما يخص فصل الموظف العام لشبهة الانتماء للمعارضة؛ أنها أطلقت سلطة التقدير، التي كان يضطلع بها عدد محدود من أجهزة الدولة الأمنية والقضائية، ليشيعها وينقلها إلى مستويات وسطى في الجهاز البيروقراطي للدولة، وهو بهذا يوسع من مفهوم التقدير السياسي الذي يقوم على الوضع وليس العقد، أي عدم الالتزام الموثوق ببناء قواعد قانونية وسياسية، يمكن أن تحد من أيدي السلطة في التقدير.

مزيد من التقدير، يعني مزيدا من القمع الذي سيكون لا مركزيا، ويدمج قطاعات متسعة من المواطنين فيه- كما أشرت في المقالات السابقة.

التقدير السياسي بطبيعته، يهدف إلى إفادة طرف على حساب آخر، بما يلقي بظلاله- كما أشارت دراسات الاقتصاد السياسي- على التنمية الاقتصادية. لا يمكن أن تحدث التنمية، إذا كانت الدولة أداة للافتراس العام، أي نقل الموارد من طرف إلى آخر يمارس سلطته التقديرية..

إن التقدير السياسي لإلغاء امتياز قانوني، يعني أنه لا يمكن أن يحدث دون إنشاء امتياز قانوني آخر لطرف آخر في نفس الوقت، لأن التقدير السياسي بطبيعته يهدف لإفادة طرف على حساب آخر، وهو في حالتنا نقل سلطات التعيين في المناصب القضائية الأساسية إلى يد الرئيس، أو نقل صلاحيات القضاء إلى الشرطة والنيابة- كما في مشروع قانون الإجراءات الجنائية.

نقطة أخرى؛ إن محاولات تغيير قواعد اللعبة من خلال التقدير السياسي لن تؤدي إلا إلى التحريض للبحث عن الريع، مما يؤدي إلى تبديد أكبر للثروة. تضخم مكون الاستثمار العقاري في الاقتصاد المصري الذي يجعل من الأرض التي تسيطر عليها بعض مؤسسات الدولة ذات قيمة كبيرة، والريع الذي يحققه أفراد إنفاذ القانون في السجون من خلال الكنتين وغيره، وإطلاق يد المحاكم في تحصيل الرسوم… مجرد أمثلة على تداعيات التقدير.

نقطة انطلاق افتراس الدولة- أية دولة- تتمثل في كيفية تقليل تكاليفه عن طريق إقناع فرائسها، بأنها ليست فريسة. وستكون الدولة المفترسة أكثر نجاحًا، إذا تمكنت من إقناع مواطنيها، بأن أنشطة الدولة يتم الاضطلاع بها من أجل المصلحة العامة أو الحفاظ على الدولة وأمنها القومي، أو تحقيق الاستقرار، مما سيعزز الامتثال الطوعي لتفويضات الدولة، ويقلل من حاجتها إلى تخصيص الموارد للإكراه الصريح.

أن مكافحة الافتراس تتطلب أن ينشئ الأفراد مؤسسات للعمل الجماعي، توفر باستمرار فرصا للفريسة للدفاع عن نفسها من الدولة المفترسة، وهذا ربما يوضح سبب إضعاف مؤسسات السياسة والمجتمع المدني التي كان يمكن من خلالها التفاوض حول تحسين شروط الافتراس.

إن أيديولوجية الأمن القومي وخطاب الحفاظ على الدولة يضفيان الشرعية على القوانين والإجراءات الحكومية التي تفرض تكاليف على البعض لمنفعة الآخرين، بناءً على فكرة، أنه عندما تفعل ذلك، فإنها تعمل من أجل، أن “تحيا مصر”. يتم ذلك من خلال اختزال الدولة في شخص أو تحالف محدود يحكم، أو مؤسسات تهيمن.

الخلاصة التي يقدمها لنا أحد علماء الاقتصاد السياسي وصفا للدولة المفترسة: “لدينا نظام سياسي، يمنح سلطة مفرطة، لمن هم في القمة، وقد استخدموا هذه القوة، ليس في الحد من سوء التوزيع [يقصد توزيع الموارد والثروة وأضيف السلطة]، ولكن أيضا لجعل قواعد اللعبة لصالحهم”.

خامسا: تهديد المركز القانوني المستقر للموظف العام وحمايته، إذا تورط في الاستباحة

استمرت الجمهورية الجديدة في التوجه العام للدولة المصرية منذ مبارك (١٩٨١- ٢٠١١) نحو عدم تحصين الموظف العام من الفصل، وجرى إعادة صياغة علاقة الدولة ببيروقراطيتها.

تقوم فكرة الموظف العام على وجوب استقرار مركزه القانوني، وإلا أدى لانهيار البناء المؤسسي وتآكله. الوظيفة العامة- بحكم طبيعتها- تقوم على عمل طويل المدى عبر تحصين المركز القانوني للقائم بها.

يصف لنا الفقيه القانوني طارق البشري- رحمه الله، توفي ٢٠٢١- في مقاله إلهام عن طبائع الاستبداد، ما أصاب جهاز الدولة في عهد مبارك، فيقول: “وهنا نجد أنه في السنتين أو الثلاث الأولى من التسعينيات، أصدر مجموعة من القوانين عني أولها بتعيين القيادات في المناصب القيادية في الدولة، بحيث يكون تعيينهم مؤقتا لا من خلال حقوق ومراكز قانونية سابقة لهم، ولكن من خلال محض اختيارات الرئاسة لهم. وكان ذلك يتعلَّق بالوظائف، أو ما يسمى بالوظائف الحكومية غير التكرارية أو وظائف القيادات”.

يضيف: “في ذات الوقت كانت شركات القطاع العام المنتجة، والتي تزيد على 411 شركة، تتبع الوزارات المختلفة حسب نوعيَّاتها. فالشركات الزراعية تتبع الزراعة، والصناعية تتبع الصناعة، والتجارية تتبع التموين… إلخ، وتشرف هيئات ومؤسسات عامة. فعدّل هذا النظام، وجعله نظام شركات تتبع شركات قابضة، وذلك لإمكان التصرف فيها بالبيع في المستقبل. وجعل لكل منها مجالس إدارة تتغير كل 3 سنوات شأن الوظائف القيادية غير التكرارية في الحكومة. وقرر ذلك باسم الديموقراطية، وأنها انتخابات تجري من الجمعيات العمومية لكل شركة. والحقيقة أن هذه الجمعيات العمومية كلها مجلس إدارة الشركة القابضة الذي يعيّنه وزير واحد، هو وزير قطاع الأعمال العام. فباسم اللا مركزية تم وضع كل الشركات بيد وزير واحد بدلا من عدد من الوزراء، وباسم الديموقراطية، جعل كل مجلس إدارة لشركة يتغَّير كل 3 سنوات، مما يزعزع المراكز الثابتة في مواجهة رئيس واحد، وليس مواجهة مساهمين..

ومن هنا بدأ التفكك بهذه الإدارة على مدى سنوات التسعينيات، كان كل أصحاب المناصب الوسيطة أو العليا أو غير التكرارية، في القطاع المدني، وفي شركات القطاع العام، كل هؤلاء يشيع بينهم فكرة “إطفاء المكن” أي ألا تعمل أعماًلا قد تجلب عليك سخط رئيسك، أو تكون ذات نتائج بعيدة في الأداء العام لأجهزة الدولة المختلفة أو شركات القطاع العام أو غيرها. ومن هنا بدأ التفكك والتحلل، ثم بدأ بيع القطاع العام، وبدأ التفسخ في أجهزة الدولة، تظهر آثاره في انهيارات كاملة للعمل في كل المجالات.

كانت هذه خبرة فترة مبارك التي تضافرت معها خمسة مكونات أخرى ما بعد ٢٠١٣:

١- إنشاء كيانات موازية في الإدارة؛ للتغلب على ضعف كفاءة البيروقراطية وشيوع الفساد بين منتسبيها.

٢- لسرعة الإنجاز؛ عُهِد للمؤسسة العسكرية القيام بكثير من مهام الإدارة المدنية، وأشرفت على تدريب الجدد منهم.

٣- هيمنة النظرة الأمنية على مجمل عمل البيروقراطية؛ فلا تعيين في الوظائف إلا بموافقتها، ولا ترقيات دون إذنها، ولا استمرار في العمل دون أمرها، ولا أنشطة دون الإذن منها.

٤- انتقل نهج مبارك في السيطرة على شركات القطاع العام إلى مجمل الوظائف العليا في الدولة، مثل عمداء الكليات ورؤساء الجامعات والهيئات القضائية جميعا… بما يضمن السيطرة والتحكم الكامل في هذه المؤسسات.

٥- في الوقت الذي يجري فيه تحصين أفراد ومنتسبي الداخلية في حال انتهاك القانون أثناء تأدية خدمتهم، يتم العصف بمراكزهم القانونية إزاء رؤسائهم، بما يضمن السيطرة والتحكم فيهم. فعلى سبيل المثال؛ يتمتع وزير الداخلية في إحالة الضباط- من غير المُعينين من قبل رئيس الجمهورية- للاحتياط وفقًا لما هو مقرر بالمادة 67 من قانون هيئة الشرطة، والتي تسمح بإحالة الضباط إلى الاحتياط للصالح العام، دون تحقيق مع عدم إعطاء الضابط الحق في التظلم من قرار الإحالة للاحتياط. يجري هذا في الوقت الذي ينص قانون الإجراءات الجنائية على استعمال الرأفة مع الضباط المرتكبين لجرائم التعذيب.

هذه وسائل تفكيك وتفسيخ جهاز الدولة بكل تشكيلاته. أصبح جهاًزا خاضًعا فقط للرئاسة الفردية، وشُلت تماما قدرة المستويات المختلفة من المهنيّين وذوي الخبرات الفنية في فروع النشاط المختلفة، وشُلت تماًما قدرته على الفعل النافع بعيد المدى. وكل هذا يجري وأكثر منه في ظل ارتفاع وتيرة التوترات الاجتماعية التي تتجلى بوضوح في انهيار الثقة الاجتماعية، فيما بين المصريين، وفي مؤسساتهم.

سادسا: قسوة العقوبات كأحد أشكال عنف الدولة وقمعها:

من الناحية النظرية؛ فإن عنف الدولة لا ينبغي فهمه أو تفسيره من منظور “سياق محدد قصير المدى، ولا… كعمل سياسي مستقل”. بدلاً من ذلك، يجب أن يُفهم، على أنه سلوك استطرادي ومؤسسي مضمن في سياق تاريخي أكبر، يتميز بالاختلالات الهيكلية في العلاقة بين الدولة والمجتمع. في هذا السياق، لا يعتبر عنف الدولة حدثًا استثنائيًا؛ بل هو ممارسة روتينية لمؤسسات الدولة وعملائها.

يُنظر إلى أي مقاومة لهذه الممارسة، على أنها تهديد للأمن القومي وبالتالي، يتم القضاء عليها. هذا الروتين لعنف الدولة لا يحدث بشكل عفوي، بل ينشأ من خلال عملية منهجية تحدث عبر الزمان والمكان. وظيفة التجريد من الوطنية ونزع الإنسانية- كما أشرت في المقال السابق- أن يكون المعارضون أهدافا مشروعة لعنف الدولة أو الاستباحة القانونية، ولن يكتمل ذلك إلا بقسوة العقوبات، التي يسبقها عملية تشويه سمعة المعارضين السياسيين، وبذلك يصبحون أهدافًا مشروعة وسهلة لقمع الدولة.

إضفاء الطابع المؤسسي والقانوني على عنف الدولة والانتهاكات، يحول الدولة إلى “آلة قتل” مصممة على تدمير أولئك الذين يعارضونها.

يجادل مندور في كتابه: https://www.amazon.co.uk/Egypt-under-Al-Sisi-Nation-Edge/dp/0755649133

بأن عنف الدولة غالبًا ما يكون عشوائيًا في استهدافه لمختلف الجماعات والنشطاء السياسيين، ولكنه يميل إلى أن يكون وحشيًا وشريرًا بشكل خاص في تعامله مع الحركات الاجتماعية الشعبية، لأن مثل هذه الحركات يُنظر إليها، على أنها تهديد كبير لبقاء النظام. تستخدم الدولة العنف- غالبا- كوسيلة لتشتيت الانتباه عن نقاط ضعفها أو إخفاقاتها، مثل المشكلات الاقتصادية أو الاضطرابات الاجتماعية.

كان على نظام 3/ 7 الاعتماد على الإجراءات الاستبدادية والقمع للحفاظ على قبضته على السلطة، بدلاً من أن يكون قادرًا على الاعتماد على قاعدة صلبة من الدعم الشعبي. كان دعم تحالف الحكم- وفي القلب منه مؤسسات إنفاذ القانون- بديلا عن الدعم الشعبي. تواكب مع ذلك: غياب الضوابط والتوازنات تجاه هذه المؤسسات. ساهمت فوبيا يناير في استمرار دعم تحالف الحكم الضيق من أجهزة الدولة والأطراف الإقليمية، بالإضافة إلى بعض القطاعات الشعبية.

كان أحد المداخل التي تأكد بها قسوة النظام العقابي هو ربط المحاكم في أحكامها بين التهديد المباشر للإرهاب والعنف السياسي وبين الأنشطة السلمية مثل الاحتجاجات، والانتقادات الإعلامية أو على السوشيال ميديا وممارسة حرية التعبير بشكل عام، وبذا يتوقف القانون عن كونه وسيلة للردع أو القدرة على التنبؤ، ويصبح أداة لاستبعاد المعارضين من أي حماية قانونية.

للأسف؛ اجتمع على المصريين: عنف هياكل الدولة، وعنف السوق النيوليبرالي الشرس، وعنف النظام الإقليمي… ساهم هذا كله في إطلاق عنف أفراد المجتمع تجاه بعضهم البعض.

المصدر: مصر 360

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button