مقالات ورأى

يوسف عبداللطيف يكتب: أبناء النيل .. دمٌ واحد ووحدة لا تنكسر

يا أبن النيل، تلك العبارة التي تحمل في طياتها معاني الوحدة والتآخي، كانت دائماً رمزاً لروابط أعمق من مجرد جغرافيا أو تاريخ مشترك. إنه نداء يحمل في ثناياه صوت الأرض والماء، ووشيجة الدم الذي يجري في عروقنا.

في كل لقاءاتي مع أصدقائي السودانيين، لم أكن مجرد مصري بالنسبة لهم، بل كنت أخاً لهم .. أخاً يحمل في دمه نفس الماء الذي يشربونه من النيل، هذا الشريان الأبدي الذي لا يعرف حدوداً ولا يعترف بالفواصل.

قال لي أحد أصدقائي السودانيين يوماً، “كيف لا أعتبرك أخي، ودمنا واحد لأننا نشرب من نيل واحد؟” كان هذا الحديث درساً عميقاً في مفهوم الأخوة الذي يمتد لأكثر من مجرد كلمات أو شعارات.

ولكن ما أثار دهشتي ليس فقط هذا الارتباط الشعوري بيننا، بل أيضاً أفعال السودانيين تجاه المصريين، خاصة عندما نكون في الخارج. وجدت فيهم تفانياً وصدقاً، وجمالاً إنسانياً قلما رأيته بين المصريين أنفسهم.

كانوا يعاملونني وكأنني واحد منهم، بل أحياناً أفضل من معاملتي في بلدي .. هذا السلوك النبيل جعلني أفكر، هل نحن حقاً نقدر هذا الرباط الفريد الذي يجمعنا كشعوب على ضفاف هذا النهر الخالد؟ أم أننا نخذله بتجاهلنا وتفريطنا في هذا الإرث العظيم؟

هنا أتذكر مقولة الزعيم المصري خالد الذكر مصطفى باشا النحاس زعيم الأمة ورئيس الوفد، الذي كان له موقف تاريخي لا يُنسى عندما حاول الاحتلال الإنجليزي في عام 1936 فصل مصر عن السودان. أجابهم بجملة تختصر كل شيء: “تقطع يدي ولا تفصل مصر عن السودان.”

لم تكن كلماته مجرد تحدٍ للاحتلال، بل كانت رؤية استثنائية لوحدة المصير والأمن القومي. عندما سأله الصحفيون عن السبب وراء هذا الموقف الشرس، قال بصراحة: “الأمن القومي الداخلي لمصر ينبع من الجنوب، في السودان.” هذه العبارة ليست فقط تعبيراً عن الرؤية السياسية، بل عن إدراك عميق لجذور التداخل المصيري بين الشعبين.

لكن هل ورثنا نحن هذه الحكمة؟ هل نفهم الآن أهمية هذه العلاقة التي يتجاوز عمقها الحسابات السياسية والحدود المصطنعة؟ أم أننا أصبحنا نعتبرها مجرد تاريخ نذكره في المناسبات دون أن نسعى لتجديده وتعزيزه؟

العلاقات بين مصر والسودان ليست مجرد علاقات دول متجاورة، بل هي علاقة وجودية تمثلها الطبيعة نفسها. النيل لا يعرف الفصل بين شعبين، فلماذا نحاول نحن أحياناً أن نضع الحواجز ونبني الجدران؟

السودانيون الذين قابلتهم كانوا أكثر من مجرد أصدقاء، كانوا مرآة لما يمكن أن تكون عليه الإنسانية عندما تتجرد من الأنانية. لقد تعلمت منهم دروساً لا تُنسى، وأدركت أن الوحدة لا تحتاج إلى معاهدات أو مؤتمرات، بل تحتاج إلى قلوب مفتوحة تؤمن بأنها أكبر من كل الحدود.

نحن بحاجة إلى إعادة اكتشاف هذه الروح، ليس فقط لأن الأمن القومي لمصر ينبع من السودان، ولكن لأن مستقبلنا كبشر يتوقف على قدرتنا على تجاوز الانقسامات التي فرضتها علينا الظروف.

قد نكون أبناء النيل، لكن علينا أن نكون أيضاً أبناء الحكمة والوحدة. علينا أن نفهم أن هذا النهر الذي يمنحنا الحياة يطالبنا بأن نكون مستحقين له، وأن نحافظ على إرث الوحدة الذي يجمعنا، لا أن ندعه يتلاشى في زحمة الصراعات العابثة.

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى