تقاريرعربي ودولى

عجز الاستخبارات وحتمية المفاجآت الاستراتيجية: دروس الماضي والحاضر

نشر الباحث عازار جات من معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي دراسة تناولت موضوع المفاجأة الاستراتيجية في القرن العشرين.

وأوضح جات أنَّ هذه الظاهرة تحققت دون استثناء في جميع الحالات التي باغت فيها طرف خصمه، مشيرًا إلى أنَّ السبب الرئيسي يعود إلى قدرة الأطراف المباغِتة على استغلال نقاط ضعف خصومهم وتحليل معلوماتهم الاستخباراتية بدقة.

وأضاف أنَّ العديد من العوامل مثل الجهل أو الاستهانة بالعدو، والثقة الزائدة، ساهمت في نجاح هذه المفاجآت. من نتائج هذه الدراسة، يمكن استنتاج أنَّ التنبؤ بالتحركات الاستراتيجية للخصوم يحتاج إلى تحديث مستمر واستعداد دائم لتجنب الفشل المفاجئ.

تاريخ القرن العشرين يظهر بوضوح أن المفاجأة الاستراتيجية كانت دائمًا عاملاً حاسمًا في تحطيم التوقعات العسكرية، فكل مرة باغت فيها طرف خصمه، كانت النتائج كارثية، والتساؤل الرئيسي الآن هو لماذا حدثت هذه المفاجآت وكيف تكررت دون استثناء؟ وكيف يمكن الاستفادة من هذه النتائج في تجنب الكوارث المستقبلية؟

الهجوم المفاجئ الذي شنته حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023 يعيدنا إلى تاريخ طويل من المفاجآت الاستراتيجية التي وقعت في القرن العشرين ويطرح أسئلة جديدة حول كيفية الوقوع فيها مرارًا وتكرارًا رغم الدروس التاريخية القاسية

لقد أثارت عملية حماس هواجس مريرة حول قدرة إسرائيل على توقع الأحداث رغم تجاربها السابقة في حرب أكتوبر 1973 التي شكّلت صدمة للاستخبارات الإسرائيلية وشغلت المؤسسة العسكرية لعقود، لكن مع الهجوم الأخير تكررت كل عناصر المفاجأة الاستراتيجية مع نتائج أكثر كارثية،

ورغم أن الأدبيات العلمية حول هذه المفاجآت واضحة في الإقرار بصعوبة منعها، إلا أن التحدي الأكبر اليوم يكمن في فهم الأسباب الجذرية لهذا الإخفاق المتكرر والعمل على تجنب تكراره في المستقبل

المفاجآت الاستراتيجية: كيف تحققت عبر التاريخ دون استثناء؟

المفاجأة الاستراتيجية هي التي تحدث في بداية الحرب، وتختلف عن المفاجآت العملياتية أو التكتيكية التي قد تحدث أثناء المعركة، حيث يمكن لتلك الأخيرة النجاح أو الفشل.

ولكن المفاجأة الاستراتيجية في بداية الحرب كانت دائمًا ناجحة، دون استثناء، على مدار القرن العشرين، وهذا الواقع يفرض علينا التساؤل: لماذا لم تنجح أي محاولة لتجنب المفاجأة؟

يمكن ذكر عدة أمثلة شهيرة من القرن الماضي، حيث أدت المفاجآت الاستراتيجية إلى نتائج مدمرة، من بينها:

الهجوم الياباني على روسيا عام 1904

عملية بارباروسا ـ غزو ألمانيا النازية للاتحاد السوفييتي عام 1941

الهجوم الياباني على بيرل هاربر عام 1941

الغزو الكوري الشمالي لكوريا الجنوبية عام 1950

دخول الصين في الحرب ضد قوات الأمم المتحدة في كوريا عام 1950

الهجوم الإسرائيلي على مصر عام 1956

الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968

الهجوم المصري والسوري على إسرائيل عام 1973

الغزو العراقي لإيران عام 1980

الغزو العراقي للكويت عام 1990

    كل هذه الهجمات كانت مفاجآت استراتيجية، وكلها نجحت في البداية بإحداث أثر حاسم، مما يدعو للتفكير الجدي في أسباب استمرار هذا النمط وعدم قدرة الاستخبارات والسياسات العسكرية على منع حدوث مثل هذه المفاجآت

    لماذا فشلت الاستخبارات في توقع الحروب؟

    من المتفق عليه أن فشل الاستخبارات في توقع الهجوم المفاجئ ليس فقط نتيجة عيوب في النظام الاستخباري، بل يتعلق أيضًا بالقيادة السياسية والمفاهيم العسكرية.

    فمثلاً، في حرب أكتوبر 1973 والسابع من أكتوبر 2023، كانت المشكلة تتجاوز مجرد قصور في جمع المعلومات، إذ شملت فشل القيادة السياسية والعسكرية في فهم نوايا العدو

    يقال إن الزعماء السياسيين لديهم فهم أفضل لسلوك الخصوم مقارنة بأجهزة الاستخبارات، ويُستدل على ذلك بخبرة شخصيات مثل وزير الدفاع الإسرائيلي في 1973 موشيه ديان.

    ومع ذلك، فإن مثل هذا التفسير لا ينطبق دائمًا، خاصة عندما يتعلق الأمر بحركة مثل حماس في 2023 التي أظهرت تفوقًا تكتيكيًا مدهشًا رغم التوقعات السابقة

    المفاجآت الاستراتيجية على مر القرن العشرين: النجاح الحتمي

    كانت الحرب العالمية الأولى بداية لعصر المفاجآت الاستراتيجية الناجحة، حيث سمحت التكنولوجيا والميكنة بتنفيذ ضربات عسكرية خاطفة، والتي غالبًا ما كانت تستغل ضعف استعداد الطرف المدافع.

    وكانت التحركات الهجومية الكبيرة مرئية بشكل كبير، ومع ذلك كانت غالبًا تُفسّر خطأً على أنها مجرد استعراض للقوة أو تحركات دفاعية وليست استعدادًا للهجوم

    على سبيل المثال، قبل الهجوم الألماني على الاتحاد السوفييتي في عملية بارباروسا عام 1941، كان الاتحاد السوفييتي على علم بتحركات القوات الألمانية الضخمة، ولكنها فُسرت بشكل خاطئ من قِبل القيادة السوفييتية على أنها وسيلة ضغط دبلوماسي أو مناورة سياسية، وليس إشارة على حرب وشيكة

    وفي حالة غزو العراق للكويت عام 1990، ورغم رؤية التحشيد العراقي على الحدود عبر الأقمار الصناعية الأمريكية، إلا أن الولايات المتحدة والكويت ظنتا أن العراق يستعرض قوته فقط للضغط في مفاوضات دبلوماسية، مما أدى إلى الكارثة العسكرية

    التفسيرات التقليدية للفشل الاستخباري: حدود العقلية المفاهيمية

    الكثير من التفسيرات للفشل في توقع المفاجآت الاستراتيجية تركز على القصور العقلي، والتحيزات المعرفية، والتفكير الجماعي داخل مؤسسات الاستخبارات والقيادة السياسية. ومع ذلك، هذه التفسيرات التقليدية لم تعد كافية لتفسير النجاح الدائم للمفاجآت الاستراتيجية

    بعض المحللين يفسرون هذا النجاح على أساس ندرة الحروب مقارنة بفترات الهدوء الطويلة. كما قال الجنرال إيلي زعيرا في كتابه عن حرب 1973: في كل يوم يتوقع المرء أن لا تقع حرب بناءً على سجلات طويلة من السلام النسبي، فتصبح الحرب مجرد احتمال بعيد غير مرجح، مما يؤدي إلى تراجع الاستعداد الدائم للحرب

    التشتيت بين الإشارات والضوضاء: تحديات الاستخبارات الحديثة

    من التحديات الرئيسية التي تواجه أجهزة الاستخبارات هي التمييز بين الإشارات الحقيقية على الهجوم والضوضاء المضللة. في كثير من الأحيان، تتلقى الأجهزة تحذيرات متضاربة، ومعظمها يشير إلى تهديدات غير مؤكدة. في هذا السياق، قد تبدو تحركات العدو وكأنها مجرد استعراض للقوة أو تدريبات عسكرية، ولكنها في الواقع تكون جزءًا من خطة لهجوم مفاجئ

    في حالة حرب أكتوبر 1973، كان تحشيد القوات المصرية والسورية على الجبهات الإسرائيلية مرئيًا بوضوح، ولكن الاستخبارات الإسرائيلية فسّرت هذه التحركات على أنها تدريبات عسكرية روتينية، مما أدى إلى الفشل في الاستجابة المناسبة في الوقت المناسب

    أما في هجوم حماس في 2023، فإن التحركات العسكرية العلنية التي قامت بها حماس قبل الهجوم لم تُفسر بشكل صحيح، رغم أنها كانت تشير إلى استعداد غير مسبوق للهجوم. حتى بعد تلقي إشارات عديدة على مدى الليل، لم تكن القوات على الحدود في حالة تأهب عند اندلاع الهجوم، مما أدى إلى واحدة من أسوأ الكوارث الأمنية في تاريخ إسرائيل الحديث

    أسباب نجاح المفاجآت الاستراتيجية: تفسيرات جديدة

    رغم أن الفشل في توقع الحروب يُعزى غالبًا إلى القصور المفاهيمي أو التشتيت بين الإشارات الحقيقية والضوضاء، إلا أن هناك عوامل أخرى تفسر النجاح المستمر للمفاجآت الاستراتيجية.

    أحد التفسيرات هو أن الدول غالبًا ما تستخدم تحشيد قواتها لأغراض سياسية أو دبلوماسية، مما يؤدي إلى تفسير هذه التحركات على أنها ضغوط دبلوماسية وليست مؤشرات على حرب حقيقية

    على سبيل المثال، كان حشد القوات الألمانية على الجبهة الشرقية قبل غزو الاتحاد السوفييتي عام 1941 يُنظر إليه على أنه محاولة ضغط سياسي على ستالين.

    وبالمثل، كان يُعتقد أن التحركات العسكرية العراقية قبل غزو الكويت هي جزء من حملة ضغوط وليس نية فعلية للحرب. هذه الأمثلة تعكس كيف أن التقديرات الخاطئة للنوايا السياسية والدبلوماسية تؤدي إلى كوارث عسكرية مفاجئة

    دروس من الماضي: هل يمكن تجنب المفاجآت الاستراتيجية؟

    من الواضح أن المفاجآت الاستراتيجية كانت، ولا تزال، جزءًا لا يتجزأ من الصراعات العسكرية. ورغم كل التطور في مجال الاستخبارات والتكنولوجيا، فإن توقع الحروب قبل اندلاعها يظل أمرًا بالغ الصعوبة. التجربة التاريخية تُظهر أن مفاجآت القرن العشرين كانت ناجحة بشكل مستمر دون استثناء

    التحدي الأكبر اليوم هو كيف يمكننا تجنب تكرار هذه الأخطاء في المستقبل؟ هل يمكن تحسين الأداء الاستخباري بحيث يصبح قادرًا على تقديم تحذيرات دقيقة قبل وقوع الهجمات؟

    أم أن المفاجآت الاستراتيجية هي جزء لا مفر منه في الحروب؟ يجب أن يكون هناك مراجعة شاملة للمنظومات الاستخبارية والعسكرية لتحديد أوجه القصور والعمل على تجنب تكرار كوارث الماضي

    المزيد

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    زر الذهاب إلى الأعلى