في مشهد كارثي يعكس غياب القدرة على التعامل مع أبسط التحديات، أغرقت مياه الأمطار التي هطلت بغزارة على مدن وقرى محافظة البحيرة، المنازل والمدارس، تاركة خلفها مشاهد من المعاناة اليومية للمواطنين الذين باتوا ضحايا الإهمال الحكومي.
الأمطار التي تساقطت بشكل غير مسبوق على المحافظة في الساعات الأخيرة من يوم الإثنين حتى فجر الثلاثاء، كشفت حقيقة الوضع المزري في التعامل مع الأزمات الطبيعية في مصر وأظهرت فشل المسؤولين في الحد من تداعياتها.
ساعات طويلة من العذاب عاشها الأهالي في العديد من المناطق، حيث غرقت الشوارع والميادين في المياه حتى بلغ ارتفاع منسوب المياه في بعض الأماكن نصف المتر، مما أدى إلى عرقلة حركة المرور بشكل كامل.
ففي المراكز الشمالية من المحافظة، مثل كفر الدوار وادكو ورشيد والمحمودية، تكشفت الحقيقة المرة: غياب البنية التحتية الجادة وقصور في الاستعدادات لمواجهة أبسط الأزمات المناخية.
في تلك المناطق، اختفت حركة السيارات والمارة على حد سواء، بينما تكدست المياه في الشوارع التي أصبحت وكأنها مسابح ضخمة تجرف معها كل شيء في طريقها.
لكن الأسوأ كان في انتظار المواطنين مع انقطاع التيار الكهربائي في العديد من المناطق مثل أبو المطامير وحوش عيسى والدلنجات والرحمانية.
فالخوف من سقوط الأسلاك الكهربائية على رؤوس المواطنين جعل المسؤولين يقررون قطع الكهرباء، ما زاد من معاناة المواطنين الذين أصبحوا محاصرين في منازلهم دون خدمات أساسية.
وكأن المأساة لا تكفي، فإن المسؤولين عن قطاع الكهرباء بدلاً من أن يلتزموا بإجراءات وقائية، كانوا يراقبون الأمور دون التدخل الجاد في إصلاح الأعطال.
العديد من التصريحات والبيانات التي أُصدرت عن المسؤولين لم تنقذ الوضع، بل زادت من إحباط المواطنين الذين باتوا في حالة من الاستفهام المستمر حول كيفية استمرار هذه الأوضاع المخزية في ظل كوارث طبيعية لا تعد ولا تحصى.
فعلى الرغم من التصريحات التي أكدت على جاهزية الأجهزة التنفيذية في مواجهة آثار الأمطار، لم يظهر أي تحرك حقيقي على الأرض.
وكأن الكلمات وحدها لا تكفي، تم الحديث عن انتشار المعدات والفرق فوراً في المناطق المتضررة. ولكن هذه الفرق والمعدات لم تكن موجودة في الوقت المناسب، ولا كانت قادرة على مواجهة حجم الكارثة.
إن تحرك تلك الفرق لم يكن سوى محاولات غير مجدية لإطفاء الحريق بعد وقوعه، بينما كان السكان العاديون في مواجهة الأمطار الغزيرة والظلام التام. لم يكن هناك من يراقب تحركات المياه أو يسعى جاهدًا لتخفيف معاناة المتضررين.
من جهة أخرى، كانت غرفة السيطرة والتحكم في الديوان العام في حالة من الانعزال التام عن الواقع، حيث كانت تعمل حسب زعم المسؤولين على مدار الساعة لمتابعة الموقف.
ولكن لم تقدم هذه الغرف أي حلول عملية على الأرض. لم تكن هناك أي خطة ميدانية حقيقية تضع المواطن في أولى أولوياتها.
حتى التوجيهات بتوجيه فرق العمل لم تصل إلى أي نتيجة تذكر، وظل الناس يواجهون المياه الجارفة التي تغمر منازلهم دون أدنى اعتبار للظروف التي يعيشونها.
التصريحات عن جاهزية محطات الصرف الصحي والزراعي لاستيعاب كميات الأمطار المتزايدة لم تكن سوى كلام فارغ لم يعكس حقيقة أن هذه المحطات كانت عاجزة تمامًا عن القيام بدورها.
ومع إهمال الصيانة للمعدات وأجهزة الشفط، كانت المشكلة تتفاقم بشكل أكبر، بينما كان سكان المناطق المنكوبة يتساءلون عن السبب في هذا التقاعس المروع من قبل السلطات.
والأنكى من ذلك، الحديث عن فرق طوارئ إضافية لم يكن سوى كلام على ورق، فلم تُرسل أي فرق للمساعدة الجادة في المناطق الأكثر تضرراً.
المواطنون في البحيرة شعروا بالخيانة من الحكومة، التي بدلاً من أن تتحرك لحل مشكلاتهم، اكتفت بتكرار العبارات التقليدية عن التنسيق مع هيئة الأرصاد الجوية ورصد التوقعات الجوية، وكأن هذا سيغير من واقعهم الأليم.
الحديث عن تفعيل غرف العمليات الفرعية وربطها بغرف العمليات المركزية كان مجرد مزيد من التلاعب بالألفاظ في محاولة لتغطية تقاعس الحكومات المتعاقبة عن توفير أبسط الخدمات.
لقد أظهرت الكارثة التي أصابت محافظة البحيرة بجلاء أن الحكومة المصرية ليست فقط عاجزة عن التصدي للأزمات الطبيعية، بل إنها غارقة في فساد مستشري يعيق تقدم البلاد.
إن تداعيات هذه الكارثة لم تكن نتيجة لظروف غير متوقعة، بل هي نتيجة حتمية لسنوات من الإهمال والفساد في جميع أجهزة الدولة.
المواطنين في البحيرة اليوم يدفعون الثمن غاليًا بسبب غياب التخطيط السليم وعدم القدرة على اتخاذ إجراءات حاسمة لحماية أرواحهم وأرزاقهم.
وفي ظل هذا الواقع المرير، يبقى السؤال الذي يطرحه الجميع: أين هي الجهود الحقيقية للحد من هذه الكوارث؟ أين الأموال التي قيل إنها رُصدت لتطوير البنية التحتية؟ ومتى ستتحمل الحكومة مسؤولياتها تجاه شعبها؟
الأمطار التي غسلت شوارع البحيرة لم تغسل فقط الأرض، بل كشفت أيضًا عن حجم الخراب الذي تعيشه المحافظة نتيجة للتقصير الفاضح من قبل المسؤولين.