مكتبة الإسكندرية: فساد حكومي يحولها إلى صرح ثقافي مهدم
مكتبة الإسكندرية، أحد أعظم معالم الثقافة في العالم العربي، تتحول إلى صرح يزداد تدهوراً يومًا بعد يوم بفعل تقاعس الحكومة المصرية والفساد المستشري في قلب هذه المؤسسة العريقة، التي كانت دائمًا رمزًا للعلم والتنوير في المنطقة.
في ظل الظروف الحالية، أصبح صرح مكتبة الإسكندرية الثقافي، الذي يعد من أكبر المكتبات في منطقة الشرق الأوسط، يعاني من مشكلات عميقة تجعل من حلم تطويره واستعادة مجده جزءًا من الماضي.
في أغسطس 2022، تولى أحد الشخصيات القيادية في الساحة الثقافية المصرية قيادة المكتبة خلفًا لمستشار سابق، وكان الجميع يأمل في أن يحمل هذا التعيين أملًا جديدًا للإحياء الثقافي.
لكن مع مرور الوقت، بدأ واضحًا أن القيادة الجديدة لن تتمكن من تحقيق الرؤى المستقبلية التي كانت تحلم بها الأجيال السابقة، بل كانت تتابع مسيرة الفشل التي تم إرساؤها على مدار السنوات الماضية.
منذ تأسيس مكتبة الإسكندرية، مرت المؤسسة بمراتب متعددة من الريادة الثقافية. ديمتريس الفاليري، المدير الأول، وضع أسسًا لطموحات المكتبة.
ومرت عبر شخصيات أخرى شكلت معالمها الكبرى على الساحة الدولية مثل محسن زهران، إسماعيل سراج الدين، ومن ثم مصطفى الفقي.
ولكن مع الوقت، أصبح هذا الصرح الثقافي العظيم مجرد تابع في يد الحكومة المصرية، التي تفتقر إلى الرؤية والاستراتيجية لتطويره.
قد تبدو الأرقام مذهلة على الورق، حيث تتحدث التقارير عن استقبال المكتبة نحو 250,000 سائح أجنبي سنويًا، ووجود ما يقارب 750,000 زيارة سنويًا من المواطنين المصريين. لكن هذه الأرقام لا تعكس الواقع الفعلي لما يعانيه المكان من نقص في الفاعلية الثقافية.
المكتبة التي كانت يومًا مركزًا للتنوير والابتكار أصبحت مجرد واجهة فارغة تستقبل الزوار دون تقديم أي إبداع حقيقي. لا مشاريع فاعلة ولا برامج طويلة الأمد تواكب احتياجات الشباب المصري والعربي، خاصة في ظل الحديث عن برامج تنموية كالمسابقات الثقافية والمنح الدراسية، والتي كانت مجرد تصريحات إعلامية لا أكثر.
ما زال القائمون على مكتبة الإسكندرية يروجون لأحلام كبيرة، مثل مشروع جائزة “مكتبة الإسكندرية الدولية”، التي يصفونها بأنها شبيهة بجائزة نوبل.
ولكن في واقع الأمر، هذه المشاريع لم تجد طريقها إلى التنفيذ الفعلي ولم تحدث أي تأثير حقيقي على مستوى العالم أو حتى على المستوى المحلي.
الجائزة الكبرى، التي من المفترض أن تجذب الأنظار العالمية إلى المكتبة، بقيت في مرحلة “التخطيط”، والأفكار لم تترجم إلى فعل حقيقي.
على الرغم من الوعود المتكررة بتطوير المكتبة وإنشاء مراكز إبداعية، إلا أن الحكومة المصرية لم توفر الدعم الكافي لذلك. يبقى المشروع الأكبر الذي يطلقه القائمون على المكتبة هو “مركز الإبداع الرقمي”، وهو مشروع لا يزال في مرحلة التخطيط رغم مرور سنوات على الحديث عنه.
يتم الترويج له كإنجاز كبير، بينما الفعالية الحقيقية له غائبة تمامًا. كما أن هناك خططًا لاستكمال إنشاء مركز للفنون والثقافة في برج العرب وأبيس، وهي مشاريع لا تزال في مرحلة الدراسة منذ سنوات دون أي تقدم ملموس.
المشكلة لا تكمن فقط في قلة الموارد أو الدعم الحكومي، بل في فساد مؤسسي يعوق أي تقدم حقيقي. المشاريع التي يتم الإعلان عنها من قبل المكتبة سرعان ما تتحول إلى مجرد وعود غير قابلة للتحقيق بسبب تعثرات إدارية ومالية، نتيجة لتداخل المصالح وتفشي الفساد في كل مستويات الإدارة.
لا يمكن إغفال التواطؤ الحكومي في تعطيل المشاريع الناجحة، فتظل المكتبة، كما هي حال المؤسسات الحكومية الأخرى، ضحية للمحسوبية والبيروقراطية التي تجعل من أي خطوة تقدمية عملية مستحيلة.
حتى على صعيد الأنشطة الثقافية، لم يعد هناك أي تحرك جاد. المهرجانات الثقافية التي كانت تُنظم في المكتبة، مثل “مهرجان الكتاب”، أصبحت مجرد فعاليات هامشية تفتقر إلى أي عمق ثقافي حقيقي.
الأرقام التي يتم التحدث عنها، مثل تنظيم 100 فعالية ثقافية في غضون أسبوعين، هي أرقام فارغة لا تعكس تأثيرًا حقيقيًا على المجتمع أو فائدة تذكر.
وفيما يخص العلاقات الدولية، ورغم الادعاء بأن المكتبة أصبحت “أيقونة دولية”، تبقى هذه العلاقات سطحية، حيث تقتصر على استقبال الوفود الأجنبية وتبادل الكتب مع المكتبات العالمية دون أي تقدم ملموس في مجال التعاون الأكاديمي أو الثقافي.
حتى الأرقام التي تم الإعلان عنها بشأن الزيارات الأجنبية اليومية، والتي تصل إلى 600 زائر، تبقى مجرد أرقام ترويجية لا تعكس واقعًا مغايرًا.
التحديات التي تواجه المكتبة لم تعد تتعلق فقط بالوقت أو الموارد، بل أصبحت تشمل غياب استراتيجية واضحة للنهوض بالمؤسسة.
الوقت لا يكفي، كما يزعم المسؤولون، ولكن هذا لا يبرر الفشل المستمر في استثمار إمكانيات المكتبة لتحقيق إنجازات ثقافية حقيقية. الحكومة المصرية، بدلًا من دعم مؤسساتها الثقافية الكبرى، تواصل سياساتها الفاشلة التي تهدم أي محاولة للإصلاح.
وتُعتبر مكتبة الإسكندرية اليوم مثالًا صارخًا على الفساد الحكومي والتقاعس الإداري. كل يوم يمر يزيد من تدهور حالتها، بينما الحكومة تواصل تكرار الوعود دون أي فعل حقيقي.
إذا كانت هناك أي آمال في إعادة مكتبة الإسكندرية إلى مكانتها العالمية، فإن هذه الآمال تتبدد سريعًا أمام واقع الفشل المستمر والتقصير الحكومي.