فضائح هيئة قصور الثقافة: نهر فساد وتستر حكومي مخيف على المتهمين
في سابقة لم تشهدها الأوساط الثقافية من قبل، فجرت الهيئة العامة لقصور الثقافة فضيحة فساد مدوية، قادتها إلى منحدر عميق من التجاوزات المالية والإدارية، في مشهد يثير تساؤلات خطيرة حول دور الحكومة المصرية وتقاعسها عن مواجهة هذا الفساد المستشري.
هذه الفضيحة التي كشفت عنها صحيفة “أخبار الغد” بتاريخ 16 أغسطس 2024، أظهرت كيف تحولت الهيئة إلى ملاذ للفاسدين، برعاية وتستر من شخصيات حكومية عليا، وصولاً إلى إلغاء قرارات حيوية لفحص هذه المخالفات.
القصة بدأت عندما نشرنا تقريراً يحتوي على مخالفات مالية وإدارية ارتكبها عبد الحليم سعيد، مدير عام التفتيش المالي والإداري بالهيئة، وبعض أعضاء التفتيش الذين تورطوا معه.
وفي خطوة تبدو وكأنها محاولة للتغطية على هذه الفضائح، قام نائب رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة بإلغاء قرار تشكيل لجنة لفحص هذه المخالفات، القرار الذي أصدره هو نفسه قبل نحو شهرين، وكأن هذا القرار صدر من “غير مختص” أو يحمل “خطأً جسيماً”، لتتعالى الشكوك حول صحة الإجراءات والفساد الذي أحاط بها.
تفاصيل الفضيحة: حينما يصبح الفساد علنياً
في محاولة أولية للتغطية على هذه المخالفات، قام نائب رئيس الهيئة بإحالة الشكاوى المتعلقة بعبد الحليم سعيد، مدير عام التفتيش المالي والإداري، إلى الأخير نفسه،
مما أثار استنكاراً واسعاً بين الموظفين والمتابعين، فكيف يُحيل المتهم نفسه للتحقيق في مخالفات هو المشتبه الرئيسي فيها؟ بعد أن سلطنا الضوء على هذه الكارثة في موقع “أخبار الغد“، قرر نائب رئيس الهيئة تشكيل لجنة برئاسة مدير عام التحقيقات، القرار الذي حمل رقم 1295 لسنة 2024.
لكن المفاجأة لم تتأخر، فبعد مرور أكثر من شهرين، ظهر عبد الحليم سعيد ليعرض خطاباً على نائب رئيس الهيئة يطالب فيه بإلغاء اللجنة المشكلة لفحص المخالفات المالية والإدارية الواردة في تقريرنا.
المفاجأة الأكبر كانت في أن نائب رئيس الهيئة رضخ لهذه الضغوط، وأصدر القرار رقم 1371 لسنة 2024، الذي ألغى بموجبه القرار السابق بتشكيل اللجنة، ما أثار موجة استياء عارمة بين الموظفين والعاملين في الهيئة.
أسئلة بلا إجابة: كيف يُلغى القرار بناءً على طلب المتهم؟
القرارات التي اتخذها نائب رئيس الهيئة أثارت العديد من التساؤلات التي لم تجد إجابات واضحة، وكان أولها: كيف يتم إلغاء قرار فحص مخالفات مالية وإدارية بناءً على طلب المتهم نفسه؟
فالموظفون في الهيئة لم يتمكنوا من استيعاب هذه الخطوة، التي جاءت في إطار من التخبط الواضح من قبل نائب رئيس الهيئة الذي بدا وكأنه يجهل تماماً خطورة الموقف.
ما يزيد الوضع سوءًا هو أن إلغاء قرار اللجنة جاء قبل التحقق من مدى صحة المخالفات التي تورط فيها عبد الحليم سعيد، مما يعني أن أي محاولة للوصول إلى الحقيقة قد أجهضت تماماً، ليبقى الفساد مستشرياً دون رادع.
قرار باطل من غير مختص: ازدواجية التلاعب
الفضيحة لم تتوقف عند هذا الحد، بل اتضح أن القرار الصادر بإلغاء لجنة الفحص لم يكن قانونياً من الأساس، إذ وقعته مدير عام الشئون المالية، التي ليس لها أي سلطة قانونية لإلغاء قرار صادر من نائب رئيس الهيئة، حيث أن السلطة الأدنى لا يمكنها إلغاء قرار صادر من سلطة أعلى.
وفي حالة كونها مفوضة من نائب رئيس الهيئة، فإن هذا التفويض يعد باطلاً، لأنه لا يجوز للمفوض تفويض غيره، ما يعني أن إلغاء القرار تم بطريقة تدليسية وبتواطؤ واضح بين الأطراف المتورطة.
فساد ممنهج وتستر مفضوح: المخالفات التي تم إخفاؤها
على الرغم من الجهود المبذولة لإخفاء الفساد، فإن التقارير التي وصلتنا تكشف عن مخالفات مالية وإدارية جسيمة تورط فيها عبد الحليم سعيد وبعض أعضاء التفتيش، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- تعيين أعضاء تفتيش في مواقع غير قانونية: في تحدٍ واضح للتعليمات واللوائح، تم تعيين مفتشين ماليين وإداريين في فروع ثقافية لا تخضع لهم، مثل فرع ثقافة الفيوم وبني سويف، في حين أن مقر عملهم الأصلي هو إقليم القاهرة الكبرى، وقد تم تزوير سجلات الحضور والانصراف للتغطية على هذا التجاوز.
- مأموريات وهمية وإهدار للمال العام: من أبرز المخالفات التي رصدتها الصحيفة قيام عبد الحليم سعيد بالانتقال بشكل مستمر إلى الأقاليم الثقافية برفقة أعضاء تفتيش معينين، تحت ذريعة فحص شكاوى يمكن حلها عن بُعد أو عبر المكاتبات الرسمية. الهدف الواضح من هذه الرحلات هو استغلال ميزانية الهيئة في “الفسح” والإقامة بالفنادق، دون أي مردود حقيقي على العمل.
- انتهاك صارخ لبطاقات الوصف الوظيفي: تم تعيين أعضاء تفتيش غير مؤهلين تماماً للعمل في هذا المجال، مثل محمد حمدي الحاصل على ليسانس آداب تاريخ، ومصطفى محمد صلاح الحاصل على دبلوم بصريات، على الرغم من أن بطاقة الوصف الوظيفي تشترط مؤهلات أخرى، مثل بكالوريوس التجارة أو ليسانس الحقوق.
فساد بلا حدود: كيف تُدار الموارد البشرية في ظل هذا الفساد؟
التجاوزات لم تقف عند المخالفات المالية والإدارية فحسب، بل امتدت لتشمل حتى الهيكل الإداري للهيئة العامة لقصور الثقافة.
فقد تورط عبد الحليم سعيد في عضوية لجان الموارد البشرية بالمخالفة لقانون الخدمة المدنية، الذي ينص بوضوح على أن مثل هذه اللجان يجب أن تضم أعضاء متخصصين في الموارد البشرية والقانونيين، وهو ما تم تجاهله بشكل كامل.
مكافأة الفاسد: كيف يُعيَّن في لجان مكافحة الفساد؟
المفارقة الأكثر سخرية في هذه الفضيحة هي تعيين عبد الحليم سعيد كمحاضر في دورة لمكافحة الفساد، إضافة إلى ترشيحه عضواً في لجنة مكافحة الفساد بوزارة الثقافة، وكأن الحكومة المصرية تعيد إنتاج الفساد وتكافئ الفاسدين بدلاً من محاسبتهم.
ما يزيد من الغموض حول هذا التعيين هو أن لجنة اختيار القيادات بالهيئة العامة لقصور الثقافة وافقت على تجديد تعيين عبد الحليم سعيد يوم 11 أغسطس 2024، رغم تجاوزه للحد الأقصى لفترة شغل الوظائف القيادية، ورغم الكم الهائل من المخالفات الموثقة ضده.
الحكومة المصرية: شريك في الفساد أم ضحية التستر؟
إن ما يحدث في الهيئة العامة لقصور الثقافة هو صورة مصغرة لما يجري في العديد من المؤسسات الحكومية المصرية. تساهل وتواطؤ من القيادات العليا، ومحاباة للمتورطين في الفساد، وتجاهل تام لمبادئ الشفافية والمحاسبة. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل الحكومة المصرية شريكة في هذا الفساد أم ضحية للتستر عليه؟
في نهاية المطاف، نجد أنفسنا أمام هيئة مشلولة، يديرها فاسدون تحت غطاء حكومي مباشر أو غير مباشر، في وقت يعاني فيه الشعب المصري من تدهور الخدمات، ونهب المال العام. لم يعد السكوت ممكناً، فهذه الفضيحة تمثل صرخة يجب أن تُسمع في كل أروقة الدولة، ولا بد من تدخل عاجل لإعادة التحقيقات وفحص كل المخالفات التي تم التستر عليها.
هل يتحرك أحد لإنقاذ الهيئة؟
إن إلغاء القرار رقم 1295 لسنة 2024 وإصدار القرار رقم 1371 لسنة 2024 يمثلان شهادة حية على أن الفساد في مصر لم يعد مجرد حالة فردية، بل أصبح مرضاً متفشياً في جسد الدولة، ومن يتصور أن هيئة قصور الثقافة معنية بنشر الوعي الثقافي فقط، فعليه أن يدرك أن هذه الهيئة أصبحت نموذجاً حيًّا لكيفية إدارة مؤسسات الدولة في ظل الفساد المتفشي.