في مشهد كارثي يعكس إهمالًا غير مسبوق من جانب الحكومة المصرية أصبح واضحًا أن الدولة بدأت في التخلي عن قلاعها الصناعية التي أسستها قبل عقود طويلة وسط تقاعس وتجاهل المسؤولين الذين لم يبدوا أي جهد حقيقي للحفاظ على هذه المنشآت الحيوية التي كانت تشكل العمود الفقري للاقتصاد المصري بعد سنوات طويلة من العمل الشاق والإنجازات.
الأحداث التي تتوالى يومًا بعد يوم تظهر مدى الفساد والتخاذل الذي ينخر في جسد الحكومة المصرية وكل ذلك يحدث تحت أنظار رئيس الحكومة مصطفى مدبولي الذي يبدو أنه إما غير مهتم أو عاجز عن التصدي لهذا التدهور الخطير.
الحديد والصلب بعد 67 عامًا من تأسيسه
منذ عام 1957 كانت شركة الحديد والصلب المصرية أحد الأعمدة الأساسية للصناعة الثقيلة في مصر وكان لها دور محوري في تلبية احتياجات السوق المحلي من الحديد والصلب. لكن اليوم وبعد 67 عامًا من العمل المتواصل، تواجه هذه الشركة التاريخية خطر الإغلاق التام.
في الوقت الذي تعاني فيه من تراكم الديون التي تتجاوز مليارات الجنيهات، نجد أن الحكومة المصرية لا تبذل أي جهد ملموس لإنقاذها أو حتى لإيجاد حلول لتطويرها. بل على العكس، في ظل غياب خطط إنقاذ حقيقية، تفاجأ الجميع بقرار بيع بعض أراضي الشركة التي كانت تعتبر من أكبر الشركات في هذا القطاع.
هذه الشركة التي كانت تساهم بشكل كبير في رفد الاقتصاد المصري بالعديد من الفرص الوظيفية والإنتاج الصناعي، تجد نفسها اليوم في قبضة من يُتهمون بتقاعس متعمد من المسؤولين عن توفير الدعم الذي تحتاجه. ولا يعكس ذلك إلا تراجعًا كارثيًا في إدارة الموارد وصناعة القرار في مصر.
ميتالكو للصناعات المعدنية بعد 56 سنة من العمل
شركة ميتالكو، التي كانت من أبرز الشركات المصرية في مجال الصناعات المعدنية، تعد هي الأخرى إحدى ضحايا الإهمال الحكومي المتواصل.
بعد 56 عامًا من العمل المتواصل، واجهت هذه الشركة مشاكل كبيرة نتيجة غياب السياسات الحكومية التي تحفز الإنتاج المحلي وتوفر الحوافز للقطاع الصناعي. بل إن تقارير أظهرت أن ميتالكو عانت من نقص حاد في المواد الخام وارتفاع تكاليف الإنتاج، ما أدى إلى تراجع كبير في قدرتها التنافسية.
وبينما كانت الحكومة المصرية تسعى لتنفيذ مشاريع تطوير صناعي حديثة، كانت شركة ميتالكو تصارع للبقاء في السوق. ومع ذلك، لم يكن هناك أي تدخل جاد من الحكومة لتوفير الموارد التي تحتاجها الشركة لإعادة هيكلة عملياتها أو لتخفيف العبء المالي الذي يعصف بها. في ظل هذا الإهمال الممنهج، تزايدت الدعوات للإصلاح، لكن المسؤولين تجاهلوا كل هذه المناشدات دون أي تحرك فعلي.
القومية للأسمنت بعد رحلة استمرت 62 عامًا
ومثلما حدث مع الحديد والصلب وميتالكو، كانت شركة القومية للأسمنت ضحية أخرى لإدارة الحكومة الفاشلة. على مدار 62 عامًا من العمل المستمر، كانت الشركة توفر كميات ضخمة من الأسمنت الذي يعد من أهم مكونات البنية التحتية في البلاد.
لكن اليوم، ورغم تاريخها العريق، تعاني القومية للأسمنت من مشكلات مالية كبيرة. تراكمت الديون على الشركة، بينما واصلت الحكومة المصرية تقاعسها في تقديم أي نوع من الدعم أو التدابير اللازمة لإنقاذها.
الواقع الصادم هو أن القومية للأسمنت، التي كانت أحد أبرز المصادر الرئيسية للإنتاج المحلي، باتت على شفا الانهيار دون أن تجد أي جهة حكومية تتحمل المسؤولية. هذا النوع من الإهمال يعكس بوضوح كيف أن الحكومة المصرية تفرط في ثروات بلادها بشكل كارثي دون أن تقدم أي بدائل ملموسة.
راكتا للورق بعد 66 عامًا من تأسيسه
من بين الشركات التي ضربها الإهمال الحكومي أيضًا، شركة راكتا للورق، التي تأسست عام 1958. ومع مرور 66 عامًا، تحولت هذه الشركة التي كانت من أكبر الشركات المنتجة للورق في مصر إلى حالة من الركود والفشل.
ما كان يُفترض أن يكون مؤسسة صناعية قوية تمثل جزءًا أساسيًا من صناعة الورق في مصر أصبح اليوم لا قيمة له، حيث تعاني راكتا من قلة الاستثمارات، وتراجع جودة الإنتاج، وعدم القدرة على المنافسة مع الشركات الأجنبية.
ورغم أن راكتا كانت تمثل مصدرًا رئيسيًا للعديد من المنتجات الورقية التي يستخدمها المواطنون في حياتهم اليومية، فإن هذا لا يمنع من أن الشركة تواجه اليوم خطر الإفلاس بسبب غياب الاستراتيجية الحكومية السليمة لإصلاح أو تطوير هذه الصناعة.
بل على العكس، نجد أن الحكومة المصرية تتحمل المسؤولية المباشرة في هذا التدهور، حيث لم تحاول حتى توفير الدعم اللازم لهذه الصناعة الهامة.
الفساد والتجاهل الحكومي يتصدر المشهد
لم تقتصر المأساة على الإهمال فحسب، بل كانت هناك مؤشرات عديدة على الفساد المستشري في أروقة الحكومة المصرية.
ففي حين أن مسؤولين في الحكومة يواصلون التفاخر بتحقيق الإنجازات في مجالات أخرى، فإن هذه الشركات الصناعية التي كانت توفر الآلاف من فرص العمل في كافة أنحاء الجمهورية تتهاوى بسبب الفساد الإداري والمالي.
مسؤولون متورطون في قضايا فساد تخص الشركات الحكومية، في وقت يعاني فيه الشعب المصري من تدهور في جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية.
المسؤولية تقع على عاتق الحكومة
رغم أن الحكومة المصرية تمثل جهة أساسية في إدارة هذه الشركات، إلا أن الواقع يشير إلى أنها لم تُظهر أي نية حقيقية في إصلاح الأوضاع.
بل كانت السياسات الحكومية تفتقر إلى الجدوى، مع تكاليف ضخمة تُنفق على مشاريع لا تصب في مصلحة الشعب، بينما يتم تدمير الصناعات الوطنية بشكل تدريجي.
إن التفريط في هذه القلاع الصناعية ليس مجرد حادث عابر، بل هو دليل على فساد مراكز القوى داخل الحكومة وغياب رؤية واضحة للمستقبل.
إن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الحكومة المصرية ممثلة في رئيس الحكومة مصطفى مدبولي، الذي يتحمل وزر هذا التدهور في القطاعات الحيوية التي تشكل أساس الاقتصاد المصري.
إذن، أين هي الحلول؟ وأين هو الأمل؟ يبدو أن الحكومة عاجزة عن تقديم أي شيء على الإطلاق، وهو ما يترك هذه الشركات الوطنية تلتهمها الأزمة من كل جانب.