كم كنا نعوّل على القمة العربية الإسلامية كي تتخذ قرارات رادعة وحاسمة ضدّ «إسرائيل» بعد مرور أكثر من سنة على الجرائم الهمجية، والإبادة الجماعية، والتدمير الهائل الممنهج، وسياسة الأرض المحروقة التي يرتكبها نتنياهو وجيشه في قطاع غزة ولبنان.
بعد انتفاضة شعوب العالم ضدّ المجازر الوحشية «الإسرائيلية»، وقطع دول أجنبية شريفة علاقاتها الدبلوماسية مع «إسرائيل»، وقيام البعض منها بطرد سفير الكيان،
وبعد قيام حركات شعبية في أوروبا وأنحاء عديدة في العالم، بمقاطعة البضائع والشركات «الإسرائيلية»، والمؤسسات الداعمة لها، وبعد مشاهدة أشلاء الرضّع والأطفال والنساء والشيوخ تغطيها ركام المنازل المهدمة على رؤوسهم. كنا على يقين أنّ قادة القمة سيشربون هذه المرة حليب السباع، ويتخذون موقفاً مشرّفاً،
ويصدرون قرارات صارمة تصدم «إسرائيل» وتبهر العالم، الذي كان يشاهد بذهول كبير، على مدى أكثر من عام، تقاعس، وتجاهل، ولامبالاة العالمين العربي والإسلامي حيال ما يجري من جرائم وإبادة جماعية في غزة ولبنان، لم يشهد العالم مثيلاً لها.
كم كنا نتمنّى من القمة أن يكون لها القرار الشجاع الذي يعبّر عن إرادة وكرامة، وضمير ووجدان مليار وسبعمئة مليون إنسان، وعما يمتلكونه من مقومات القوة العسكرية، والمالية، والاقتصادية، والبشرية، والطاقوية، لتترجمها على الأرض من خلال قرارات قوية، حازمة، واضحة لا لبس فيها، تعبّر عن مكانة، وكرامة، وحضور الأمتين العربية والإسلامية في هذا العالم الذي لا ينحني، ولا يحترم، ولا يستجيب إلا للأقوياء والكبار!
كم كنا نتمنّى أن تمتلك القمة القليل القليل من نخوة الجاهلية، لجهة دفاع القبيلة والعشيرة عن أبنائها وأشقائها، ضدّ أعدائها، واستماتتها في حفظ الأرض والدفاع عن العرض والديار!
كم كنا نتمنّى على القمة التي تضمّ 57 دولة، منها 36 دولة تقيم علاقات دبلوماسية «طبيعية» مع كيان الاحتلال، وأكثر من 10 دول من أصل 21 دولة باقية تقيم علاقات اقتصادية وأمنية وتجارية، وسياحية وغيرها… أن تحفظ كرامتها وتقوم بقطع العلاقات مع «إسرائيل» أسوة بالدول الأجنبية التي حرّكتها القيم والمبادئ، والمشاعر الإنسانية النبيلة. لكن وللأسف الشديد نرى الأشقاء أمام المشهد الرهيب في غزة ولبنان، يكتفون ببيان يحمل في طياته أدبيات متكرّرة،
لا أثر لها على الأرض، ولا قيمة أو أهمية لها عند العدو، وإنْ تناول بيان القمة نقاطاً عديدة، عبّرت فيه عن إدانتها (6 مرات)، ورفضها (3 مرات)، وتأكيدها (5 مرات)، ومطالبتها (3 مرات)، بالإضافة الى «طلبها»، و»دعوتها» و»استنكارها»، وتشديدها، ووو…
لقد خلا البيان من أي فقرة تظهر قوة القمة وصلابتها
وعزمها، لتقول إنها قرّرت، وقرّرت، وقرّرت، بدلاً من استجداء المطالبة، والاكتفاء بالتأكيد، والإدانة، والطلب، والاستنكار والرفض والتشديد ودعوة الآخرين!
يعلم قادة القمة وزعماؤها، أنّ البيان الصادر عنهم لا يساوي شيئاً عند «إسرائيل» وحماتها، طالما أنّ القرارات لا مفعول، ولا جدية، ولا متابعة، ولا تأثير لها. إذ انّ «إسرائيل»، والغرب كله، وأيضاً دول العالم التي تتابع أحداث المنطقة، ومواقف زعمائها، ترى في قرارات القمم العربية والإسلامية، كالزبد الذي يتبدّد على صخور قضاياهم المصيرية.
لم نتعلّم بعد من صفعة شارون وردّه الفوري على المبادرة العربية للسلام التي قال عنها، إنها لا تساوي الحبر الذي كُتبت به، والذي سدّد صفعة قوية للقمة، وكرامة كلّ العرب!
لو وقف القادة العرب منذ تاريخ المبادرة عام 2002، وقفة حاسمة، تحفظ مكانتهم وكرامتهم أمام العالم كله، وخرجوا من أحضان الغرب، ما كانت اليوم دولة الإرهاب تعربد وتدمّر، وتقتل وتبيد على الساحة العربية!
قولوا لنا ما الذي تحقق من بيانات القمم العربية والإسلامية السابقة، وما الذي سيتحقق من بيانها عام 2024؟! وفق أيّ منطق يمكن الضغط على «إسرائيل» لوقف عدوانها ومجازرها،
بحقّ الشعب الفلسطيني واللبناني، فيما العلاقات العربية «الإسرائيلية» في أحلى صورها، حيث لم تحرّك مجازر «إسرائيل» دولاً عربية لقطع العلاقات معها، او بالحدّ الأدنى تخفيض مستوى العلاقات؟!
بل على العكس، نجد أنّ حجم التبادل التجاري بين «إسرائيل» و4 دول عربية ارتفع بشكل كبير خلال عام 2024 لتصل نسبته ما بين 29% و 74%، وذلك وفقاً لبيان مركز الإحصاء الإسرائيلي عن النصف الأول من هذا العام، وهو عام الحرب «الإسرائيلية» على غزة ولبنان.
هل يتصوّر قادة القمة، أنّ استنكارهم، وطلبهم وإدانتهم، ورفضهم، ومطالبتهم، ودعوتهم، ستجعل «إسرائيل» تلبّي مطالبهم وتكترث بهم، وبمضمون بيانهم، وهي التي اختبرت جيداً حقيقة، وانتماء، وولاء، ومواقف، ومعدن العديد منهم؟!
«إسرائيل» كدولة احتلال تشكل منذ عام 1948 تهديداً وجودياً دائماً للأمن القومي للعالم العربي، ما يضعه أمام خطر «إسرائيلي» دائم، يحتم عليه الدفاع عن نفسه وعن دوله.
أمام استمرار الدعم العسكري الأميركي والأوروبي الكبير للعدوان «الإسرائيلي» المتمادي على غزة ولبنان، نتساءل: ما الغاية والفائدة من التسلح الهائل لدول عربية، ولصالح من؟! وضد من؟! وفي خدمة من؟! أربع دول عربية موازنتها العسكرية لعام 2024 اكثر من 100 مليار دولار، وفقاً لـ (معهد ستوكهولم لأبحاث السلام SIPRI)، ومع ذلك لم تستطع أن تخطو خطوة واحدة للدفاع عن غزة ولبنان، لحمل «إسرائيل» على وقف عدوانها، او إجبارها على «السماح» بإدخال المواد الغذائية والطبية لسكان غزة.
ليقل لنا قادة وزعماء العالم العربي والإسلامي، ما هي مكانة، وهيبة، وصدقية، وفعالية عالمهم، ورصيده داخل المجتمع الدولي، الذي لم يعر اهتماماً لقممهم مثل ما يوليه للقمم العالمية الفاعلة الأخرى؟!
كم كنا نتمنّى على القمة أن تقف وقفتها التاريجية، لتقول لـ «إسرائيل»، وللعالم كله، إنها حسمت أمرها، وقرّرت اتخاذ إجراءات فورية، وعقوبات بحقها، وفرض المقاطعة الاقتصادية عليها! لكن هذا لم يحصل بتاتاً، ما جعل بيان القمة لا صدى له في دول العالم، ولا في «إسرائيل» التي خبرت جيداً القمم العربية والإسلامية،
وعرفت مدى الجدية داخلها وحقيقة المواقف، واختلاف التوجهات والسياسات حيال قضايا ومسائل جوهرية، تبعد القمة عن وحدة الهدف، ليقتصر دورها في ما بعد على العموميات الشكلية، ويركز بيانها على الأدبيات السياسية الفضفاضة التي تبقى بعيدة عن التنفيذ والالتزام بها.
كم هو الفارق شاسع وكبير جداً بين القمم الدولية، والقمم العربية والإسلامية! قمم دول العالم يجمعها هدف واحد، وفي قممنا أهداف متباينة، متعارضة، متناقضة، متباعدة، تبقي العالم العربي والإسلامي في دوامة يتخبّط على قارعة طريق الأمل المفقود، ووحدة الهدف الموعود.
في غياب الهدف الواحد، لا تستطيع القمة تبني قرار جذري جريء رادع ضدّ «إسرائيل»، رغم انّ العالم العربي والإسلامي، يشكل 23% من سكان العالم، مع مساحة جغرافية تبلغ 42 مليون كلم٢، أيّ 28% من مساحة اليابسة!
بغياب وحدة الهدف، لم يعد يبقى لدى زعماء القمة من إنجاز ملموس سوى وحدة الصف التي تجمعهم صورة تذكارية، تُضمّ الى صور القمم التذكارية السابقة…!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق