بينما يعكف نساجو أخميم على الحفاظ على إرثهم الحضاري، تتجاهل الحكومة المصرية بشدة أهمية هذا القطاع التراثي الذي يعاني من الفساد وسوء الإدارة والقرارات الاقتصادية غير المدروسة.
في قلب محافظة سوهاج، تقع مدينة أخميم، التي كانت لقرون طويلة منارة لصناعة النسيج، تعود هذه الحرفة إلى العصور الفرعونية حيث كانت أخميم مركزًا لإنتاج الأقمشة الملكية.
ورغم الجذور العميقة لهذه الصناعة وارتباطها بالهوية المصرية، تبدو الحكومة عاجزة، بل ومتقاعسة، عن تقديم الدعم الكافي لإنقاذ ما تبقى من هذا التراث الذي يتآكل بفعل الفساد وسوء التخطيط.
أخميم كانت لقرون طويلة تُعرف بأنها مركز لصناعة النسيج اليدوي، وكل خيط يُغزل على الأنوال اليدوية فيها كان يمثل قصة من الإبداع الفني والحرفي المتقن.
الحرفيون في المدينة، ومن بينهم النساء اللاتي يلعبن دورًا محوريًا، يتحدون الزمن ويواصلون إنتاج أقمشة لا مثيل لها في الجودة واللمسات اليدوية رغم التحديات التي يواجهونها.
هؤلاء النساجون يستخدمون تقنيات تعود لآلاف السنين، ولكنهم يواجهون منافسة شرسة وغير عادلة من المنتجات المستوردة الرخيصة التي أغرقت الأسواق المصرية بسبب إهمال الحكومة وفشلها في وضع سياسات تحمي هذه الصناعات التراثية.
رغم أن الحرفيين في أخميم يواصلون الكفاح بشرف، إلا أن أصوات الأنوال تتراجع أمام تجاهل واضح من الحكومة التي تتحدث عن دعم الحرف التراثية بينما تقوم بتعقيد الأمور وتقديم وعود فارغة.
فبدلاً من توفير دعم حقيقي للنوالين وتسهيل تسويق منتجاتهم، تتسبب السياسات الفاسدة في إعاقة كل تقدم يمكن أن يحققه هؤلاء الحرفيون.
لا توجد مبادرات تسويقية حقيقية أو برامج حكومية لدعم المنتجات اليدوية، والتي تُعد جزءًا من هوية مصر التاريخية. في حين أن العالم يتجه نحو الرقمنة والتسويق الإلكتروني، ما زالت الحكومة المصرية تتعامل مع صناعة النسيج اليدوي وكأنها أمر هامشي، تاركة إياها تتعرض للاندثار.
الفساد والتقاعس الحكومي يظهر بوضوح في السياسات الاقتصادية الكارثية التي تفرض رسومًا مرتفعة على المواد الخام المستوردة المستخدمة في النسيج اليدوي، مما يجعل من المستحيل تقريبًا للنساجين الحفاظ على مهنهم.
ورغم الوعود المتكررة بإدخال التكنولوجيا الحديثة وتسهيل التسويق الإلكتروني للمنتجات اليدوية، فإن هذه الجهود تبدو غير كافية، إن لم تكن مجرد شعارات فارغة. الحكومة المصرية تتحمل مسؤولية واضحة في انهيار هذه الصناعة التراثية التي لا تمثل فقط مصدر رزق لآلاف العائلات، بل تشكل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية.
المرأة في أخميم هي رمز للصمود والكفاح، تلعب النساء في المدينة دورًا حيويًا في الغزل والنسيج والتطريز، وهن يجمعن بين الإبداع والفن والمهارة الفائقة، إلا أن الحكومة لم تقدم الدعم الكافي لهن، تاركةً إياهن يصارعن البيروقراطية والفساد الذي يحيط بهن من كل جانب.
هذه الحرفيات، اللواتي يمثلن العمود الفقري لصناعة النسيج في أخميم، يعانين من تجاهل الحكومة لمطالبهن المتكررة بتوفير تسهيلات تتيح لهن الاستمرار في عملهن.
لا يزال المسؤولون الحكوميون يتجاهلون أهمية هذه الصناعة ويتعاملون معها وكأنها مجرد مصدر دخل ضئيل لا يستحق الاهتمام.
الأستاذ خالد، الخبير في التراث الثقافي، يشير إلى أن السياحة يمكن أن تكون أحد الحلول لإنقاذ صناعة النسيج في أخميم. ولكنه أيضًا يشير إلى فساد الهيئات السياحية في مصر، حيث تفتقر الدولة إلى أي استراتيجية حقيقية لتسويق هذه المنتجات الفريدة للسياح الذين يحبون اقتناء الأقمشة المطرزة يدويًا.
كيف يمكن للسياحة أن تكون جزءًا من الحل بينما تدار بشكل سيء وبيروقراطي وتفتقر إلى الشفافية؟ على الرغم من وجود فرصة كبيرة لجعل هذه الصناعة دعامة للاقتصاد المحلي، فإن السياسات الحكومية تجعل من المستحيل تقريبًا تحقيق ذلك.
في الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن دعم الصناعات التراثية، نجد أن الواقع يعكس العكس تمامًا. تم إنشاء قرية للنسيج في حي الكوثر بدعم من الحكومة، ولكنها خطوة صغيرة وغير كافية أمام التحديات الكبرى التي تواجه هذه الصناعة.
يبدو أن هذه المبادرات ليست سوى محاولة لتهدئة الغضب الشعبي، ولكنها تفتقر إلى رؤية استراتيجية شاملة لدعم هذه الحرفة وضمان استمراريتها. عبدالصبور هريدي، المعروف بشيخ النساجين، والذي لم يتوقف عن العمل منذ عقود، يمثل أحد أبطال هذه الحرفة، إلا أن جهوده الفردية لا تكفي لإنقاذ صناعة بأكملها.
عبدالصبور، الذي سافر إلى دول عديدة للترويج للمنسوجات الأخميمية، لم يجد من الحكومة المصرية الدعم اللازم الذي يمكن أن يساهم في إنجاح مساعيه.
في معرض التراث الذي حضره الرئيس السيسي، كان هناك حديث كبير عن دعم الصناعات اليدوية، ولكن الواقع يقول شيئًا مختلفًا. تلك الوعود الرنانة لم تتحول إلى سياسات حقيقية أو خطوات ملموسة على أرض الواقع. هل يمكن أن تتقدم هذه الصناعة بدون دعم حقيقي من الدولة؟ بالطبع لا.
مدينة أخميم، التي كانت تُسمى “مانشستر ما قبل التاريخ”، قد تنهار إذا استمرت الحكومة في تجاهلها لصرخات الحرفيين هناك.
كانت هذه المدينة تنتج أقمشة للملوك وتصدرها للعالم، أما الآن فهي تواجه خطر الانقراض بسبب الإهمال المتعمد والفساد المستشري. كل قطعة نسيج تُنتج اليوم هي شهادة على الإهمال الحكومي والفشل في الحفاظ على التراث.