في الذكرى الـ 106 لعيد الجهاد، تجد نفسك أمام لحظة تاريخية ضائعة في ركام الأحداث المتسارعة والنسيان المتعمد.
لقد كان عيد الجهاد أكثر من مجرد يوم احتفال؛ كان رمزاً للمقاومة والعزة الوطنية التي اجتمعت حول حلم الاستقلال. من المؤسف أن يتم طمس هذا اليوم من الذاكرة الجماعية منذ عام 1952 وكأنه لم يكن، على الرغم من أنه مثل حجر الزاوية في تاريخ مصر الحديث.
كيف يمكن لبلد أن ينسى لحظة جسد فيها أبناؤه، بكل طبقاتهم وفئاتهم، أسمى معاني التضحية من أجل الحرية؟ كيف يمكن لتاريخنا أن يصبح مجرد صفحات مطوية عندما كان هذا اليوم يمثل كل ما كنا نطمح إليه كأمة؟
في ذلك اليوم من عام 1918، حينما وقف سعد زغلول ورفيقاه عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي أمام المندوب السامي البريطاني، مطالبين بحق مصر في تقرير مصيرها، لم يكن هذا مجرد طلب رسمي بارد.
كان ذلك إعلانًا صريحًا للثورة، دعوة جريئة لرفض الاستسلام للإملاءات الأجنبية. وحين قوبل طلبهم بالرفض المهين، وكأنهم لا يمثلون سوى أنفسهم، انفجر بركان الغضب الشعبي. حينها أدرك المصريون أن الاستقلال لن يُمنح بل يُنتزع، وأنه لا يمكن الاعتماد على أحد سوى أنفسهم لتحقيق حريتهم.
هذا الحدث لم يكن مجرد وقفة دبلوماسية قصيرة، بل كان الشرارة التي أشعلت فتيل ثورة 1919. تلك الثورة التي امتدت لتشمل كل طبقات الشعب، وجمعت التوكيلات لسعد زغلول ورفاقه ليذهبوا إلى باريس لعرض قضيتهم على مؤتمر السلام.
كان ذلك بمثابة استفتاء شعبي على الشرعية الوطنية، لا تلك التي تمنحها سلطة الاستعمار، بل التي تأتي من قلوب الناس وأصواتهم.
لكن من المثير للدهشة، والمخجل في ذات الوقت، أن مصر التي نالت استقلالها بفضل هذه الحركة، قد ألغت الاحتفال بهذا اليوم. وكأننا كأمة قررنا أن نطوي صفحات أمجادنا الحقيقية ونغمرها في غياهب النسيان.
كيف يمكن أن يُلغى عيد الجهاد، الذي كان رمزًا لنضالنا الجماعي من أجل الكرامة الوطنية؟ كيف يمكن أن يُمحى من ذاكرة الأمة؟ وهل يعني ذلك أن الاستقلال الذي نحتفل به اليوم قد فقد معناه الحقيقي، أو أن طمس هذا اليوم جاء ضمن سياق أوسع لتفريغ نضالنا من مضمونه؟
ليس الغريب فقط هو الإلغاء بحد ذاته، بل ما يشير إليه هذا الإلغاء من تحول في ثقافتنا السياسية وفي الذاكرة التاريخية. الاحتفال بعيد الجهاد كان يعني أن مصر كانت تفخر بنضالها وتضحياتها. وكان يعني أننا كنا نعي أن الحرية لا تأتي من فراغ، بل من كفاح طويل وصمود شعب كامل ضد الاستعمار والاستبداد.
لكن عندما تم إلغاء هذا اليوم من الذاكرة الرسمية، كان ذلك بمثابة إعلان غير معلن أن النضال لم يعد جزءًا من هويتنا الوطنية. وكأننا اخترنا أن ننسى لأن تذكر هذا اليوم يعني تذكيرنا بأن الحرية التي نعيشها اليوم ليست هبة من أحد، بل ثمرة نضال.
عيد الجهاد كان يحمل معانٍ أعمق من مجرد ذكرى. كان تعبيرًا عن فكرة أزلية، أن الحرية والاستقلال ليسا كلمات تُلقى في الخطب السياسية بل هما مسؤولية، وجهاد مستمر.
اليوم، ونحن في القرن الـ21، لا بد أن نتساءل: ماذا تبقى من روح عيد الجهاد؟ هل لا تزال تلك الروح حية في نفوسنا، أم أننا رضخنا لواقع مستأنس جعلنا نتجنب مواجهة الماضي؟ ماذا يقول عنّا تاريخنا إذا كنا قد نسينا أهم أيامه، بل الأيام التي صنعت استقلالنا نفسه؟
ليس عيد الجهاد مجرد حدث في كتب التاريخ، بل هو رمز للنضال الحقيقي الذي قام به آباؤنا وأجدادنا. هو تذكير بأن مصر لم تكن لتصل إلى ما هي عليه اليوم من استقلال لولا هذا النضال.
إن إحياء ذكرى هذا اليوم ليس مجرد واجب أخلاقي تجاه التاريخ، بل هو واجب تجاه أنفسنا وتجاه الأجيال القادمة. لأن في نسيان هذا اليوم نسيان للمعنى الحقيقي للاستقلال وللتضحية.
لقد كان عيد الجهاد يُحتفل به بزيارة ضريح سعد زغلول، بوضع الزهور، بإلقاء الخطب الوطنية. كان يومًا يجمع الأمة حول ذاكرة مشتركة لنضالها. لكن بإلغائه، كأنما ألغينا جزءًا من هويتنا.
اليوم، ونحن نتحدث عن الحرية والديمقراطية، يجب أن نتذكر أن هذه الكلمات الفارغة لا تعني شيئًا بدون تضحيات حقيقية، بدون نضال حقيقي.
عيد الجهاد يجب أن يعود إلى الواجهة. يجب أن نعيد إحياءه في قلوبنا وذاكرتنا الجماعية. لأننا، إذا نسينا هذا اليوم، نكون قد نسينا جزءًا جوهريًا من كينونتنا كشعب وأمة. ولعل هذا النسيان هو الكارثة الحقيقية. فكيف يمكن لأمة أن تمضي قدمًا إذا كانت قد نسيت جذورها؟