في حادثة تعد وصمة عار في جبين الحكومة المصرية، باتت مستشفى العجوزة الخيرية، التي أُنشئت منذ ما يقارب القرن لخدمة غير القادرين، على أعتاب أن تتحول من صرح طبي كان يُنير طريق الفقراء إلى مشروع استثماري هدفه الأول والأخير تحقيق الربح، وذلك تحت غطاء قانوني يتيح تأجير المستشفيات العامة للمستثمرين المصريين والأجانب.
لم يكن مستشفى العجوزة مجرد مبنى عادي بل كان رمزًا للخير والعطاء، إذ أنشئ في عام 1936 بعد أن تبرعت حفيظة هانم رستم الألفي، جدّة رجل الأعمال معتز الألفي، بكل ممتلكاتها من أجل بناء هذا الصرح الطبي العملاق على مساحة 16 فدانًا في حي العجوزة.
تلك السيدة لم تدخر شيئًا من ثروتها، بما في ذلك مجوهراتها وسيارتها الفاخرة، لصالح هذا المشروع الإنساني النبيل الذي كان يهدف لعلاج غير القادرين مجانًا.
واليوم، وفي خطوة جائرة، بات هذا المستشفى الخيري ضمن قائمة من المستشفيات التي تسعى الحكومة المصرية لطرحها للاستثمار، إلى جانب مستشفيات أخرى مثل مبرة المعادي، هليوبوليس، الشيخ زايد، ومستشفى أورام دار السلام هرمل.
من الخيرية إلى الاستثمار: التدهور الأخلاقي والفساد الحكومي
بينما يستمر الحديث عن تطوير البنية التحتية والرعاية الصحية في مصر، تبدو هذه الإجراءات كمجرد غطاء لسياسات تهدف إلى خصخصة القطاع الصحي تحت ستار التنمية.
فهل يُعقل أن مستشفى أُنشئ لخدمة الفقراء يُطرح للاستثمار؟ وهل أصبح علاج الفقراء عائقًا أمام الحكومة لتقرر بيعه لمستثمرين يستهدفون الربح؟
المستشفى العريق الذي يحمل اسم “مستشفى الجمعية الخيرية بالعجوزة” مازال حتى الآن يتبع إداريًا ما يُسمى بأمانة المراكز الطبية المتخصصة.
وهذه الأمانة تضم أهم مستشفيات وزارة الصحة المصرية مثل معهد ناصر، مستشفى الشيخ زايد التخصصي، ومستشفى زايد آل نهيان. ولكن رغم كل هذه القنوات الرسمية، فإن المستشفى في طريقه للتسليم إلى مستثمرين تحت بند قانوني يمنح المستثمرين القدرة على إدارة وتشغيل المستشفيات الحكومية.
معتز الألفي والفضيحة المدوية
في مارس 2015، وأثناء حفل افتتاح تطوير مستشفى العجوزة، فاجأ رجل الأعمال معتز الألفي الجميع بإعلانه أن الأرض التي أُقيم عليها المستشفى مملوكة لجدته حفيظة هانم رستم الألفي.
هذه الأرض، التي تبرعت بها جدته في الأساس لإنشاء مستشفى خيري، تم الكشف عن مستندات تثبت ملكيتها للعائلة، وهي معلومة قُدمت إلى رئيس الوزراء آنذاك إبراهيم محلب ووزير الصحة الدكتور عادل عدوي.
ما يثير التساؤلات: كيف يمكن لعائلة الألفي، التي طالما تمجّدت بالتبرع لهذه الأرض، أن تشهد تحول المستشفى من خدمة الفقراء إلى مشروع ربحي؟ وهل هناك صفقة تحت الطاولة تتم لتأجير هذا المستشفى العريق ضمن خطط الحكومة لخصخصة المستشفيات العامة؟
إهمال الحكومة وأثره الكارثي على الصحة العامة
إذا نظرنا إلى تاريخ مستشفى العجوزة، سنجد أن هذا الصرح الطبي مر بمراحل تطوير عديدة طوال 88 عامًا، وكان دائمًا ملاذًا للفقراء وغير القادرين.
توسع المستشفى ليشمل أقسامًا طبية متنوعة مثل الجراحة العامة، جراحة العظام، القلب والأوعية الدموية، المخ والأعصاب، الكلى والمسالك البولية، وغيرها من التخصصات المهمة.
كما يحتوي على قسم أشعة متطور، ووحدة قسطرة قلبية، ومعامل تحاليل طبية، ومدرسة ومعهد للتمريض، فضلاً عن قسم الكلى الذي يضم 47 ماكينة غسيل كلوي.
المستشفى، الذي يضم 130 سريرًا داخليًا، كان من المستشفيات القليلة التي استطاعت مواجهة جائحة كورونا بفضل تجهيزاته المتطورة وخدماته الطبية المتكاملة.
هذا المستشفى، الذي أُنشئ لخدمة الفقراء، كان دائمًا يقدم خدمات طبية على أعلى مستوى بلا أي مقابل، وهو ما يجعله اليوم في خطر كبير إذا ما استمر التفكير في تحويله إلى مشروع ربحي.
القانون المشبوه: تأجير المستشفيات
الحكومة المصرية، وبإقرارها قانون “تأجير المستشفيات”، فتحت الباب أمام المستثمرين للسيطرة على المستشفيات العامة وإدارتها لتحقيق الأرباح.
هذا القانون لا يهدد فقط مستشفى العجوزة بل يمتد ليشمل عددًا من المستشفيات الأخرى مثل مبرة المعادي وهليوبوليس، مما يطرح تساؤلات جدية حول مصير الرعاية الصحية في مصر.
هل سيظل الفقراء قادرين على الحصول على الرعاية الطبية المجانية التي وعدتهم بها الدولة منذ زمن طويل؟ أم أن هذه الحقوق ستُسلب منهم بفضل سياسات تهدف إلى بيع كل ما هو عام لصالح القطاع الخاص؟
النتيجة المحتومة: معاناة الفقراء والربح على حساب الإنسانية
إذا استمرت الحكومة في هذا النهج، فإن الضحية الأولى ستكون دائمًا الفقراء. هؤلاء الذين لا يملكون القدرة على دفع تكاليف العلاج في المستشفيات الخاصة سيفقدون آخر ملاذ لهم.
مستشفى العجوزة، الذي شُيد بعرق وتضحيات امرأة نادرة مثل حفيظة هانم الألفي، لم يكن يومًا مجرد مشروع بل كان رمزًا للعطاء والخير. تحويله إلى مشروع ربحي يعني خيانة للغرض الذي أُنشئ من أجله، وتفريطًا في حقوق المواطنين الفقراء الذين لطالما اعتمدوا عليه.
ويظل السؤال المحير: لماذا تدمر الحكومة إرثًا إنسانيًا وصحيًا كهذا؟ ولماذا تبيع صروح الخير والعطاء التي بُنيت لخدمة الفقراء إلى مستثمرين يسعون للربح؟