106 عامًا على عيد الجهاد: ثورة شعب ومواجهة استعمار
بدأت مصر تحتفل بعيد الجهاد الوطني منذ عام 1922، وهو اليوم الذي ارتبط بالزعيم الراحل سعد زغلول ونضال الشعب المصري من أجل الاستقلال.
ولكن في العام 1952 تم إلغاء هذا الاحتفال، مما أثار التساؤلات حول أحد أهم الأحداث الوطنية في التاريخ المصري. عيد الجهاد ليس مجرد ذكرى لحدث، بل هو رمز لتحدي الشعب المصري للاستعمار البريطاني، ومطالبته بحقه في تقرير مصيره واستقلاله.
تعود جذور هذا العيد إلى يوم 13 نوفمبر 1918، عندما ذهب سعد زغلول ومعه عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي إلى مقابلة السير ريجنالد ونجت، المندوب السامي البريطاني في مصر. كان هدفهم هو الحصول على إذن بالسفر للمشاركة في مؤتمر السلام في فرساي بفرنسا، من أجل عرض قضية مصر والمطالبة بإنهاء الحماية البريطانية المفروضة عليها منذ عام 1914. ارتكزت مطالبهم على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون.
إلا أن هذه الخطوة الجريئة التي قام بها سعد زغلول ورفاقه لم تلقَ استحساناً من السلطات البريطانية. فكان الرد البريطاني حازماً: “أنتم لا تمثلون سوى أنفسكم.” كان ذلك الرد بمثابة شرارة أشعلت غضب الشعب المصري. وأمام هذا التحدي، بدأ المصريون بجمع التوكيلات الشعبية لتفويض زغلول ورفاقه بالسفر إلى باريس وعرض القضية المصرية على العالم، مما جعلهم يمثلون صوت الشعب بكافة فئاته وطبقاته.
بعد رفض الطلب، تصاعدت موجة الغضب الشعبي، واندلعت ثورة 1919 التي قادها حزب الوفد تحت رئاسة سعد زغلول. وجاءت هذه الثورة بمثابة الإعلان عن فصل جديد في نضال الشعب المصري ضد الاحتلال. تم اعتقال سعد زغلول ورفاقه في 8 مارس 1919، ولكن ذلك لم يوقف الحراك الشعبي. بالعكس، زادت المقاومة الشعبية قوة وإصرارًا، وتوالت التظاهرات والاحتجاجات التي كانت تملأ شوارع مصر، مرددة شعارات الاستقلال والحرية.
استمرت المقاومة الشعبية لمدة أربع سنوات، حتى اضطرت بريطانيا في النهاية إلى الاعتراف بمصر دولة حرة ذات سيادة، وذلك في 28 فبراير 1922، بعد أن أصدرت تصريحًا أحاديًا يعترف بالاستقلال، وأعقب ذلك إصدار دستور جديد في 19 أبريل 1923. وفي يناير 1924، اجتمع أول برلمان مصري منتخب، وشكل سعد زغلول الحكومة بعد أن حصل حزبه على الأغلبية.
كان “عيد الجهاد” يُحتفل به سنويًا منذ ذلك الحين. وفي كل عام، يتوجه الشعب المصري إلى ضريح سعد زغلول، حيث كان الزعماء يخطبون فيه، وتوضع الزهور ترحمًا عليه. كانت هذه الاحتفالات تعبيرًا عن التقدير والوفاء للشخص الذي حمل على عاتقه راية الاستقلال وواجه البريطانيين بشجاعة.
لكن عيد الجهاد الوطني لم يكن مجرد حدث سنوي، بل كان يرمز أيضًا إلى التلاحم الشعبي والتوحد خلف قائد وطني لتحقيق هدف مشترك. لم يقتصر الاحتفال بهذا اليوم على أهل القاهرة فقط، بل كان يعم جميع أنحاء البلاد، لتصبح هذه المناسبة واحدة من أهم المناسبات الوطنية في التاريخ المصري الحديث.
في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الأولى، برزت فكرة عقد مؤتمر باريس للسلام 1919، الذي كان يهدف إلى تقرير مستقبل العالم بعد الحرب. شعر الزعيم سعد زغلول ورفاقه أن هذا المؤتمر يمثل فرصة مثالية لعرض قضية مصر على الساحة الدولية والمطالبة باستقلالها الكامل عن بريطانيا. وقد أدرك المصريون هذه الفرصة فهبوا إلى جمع التوكيلات من مختلف أنحاء البلاد لتفويض زغلول بالسفر إلى باريس.
ورغم أن البريطانيين رفضوا منح سعد زغلول ورفاقه الإذن بالسفر، إلا أن هذا الرفض أشعل فتيل ثورة 1919. كانت هذه الثورة هي الخطوة الفعلية الأولى في مسيرة الشعب المصري نحو الاستقلال. لم تكن هذه الثورة مجرد احتجاجات عابرة، بل كانت حركة وطنية متكاملة، ضمت مختلف فئات الشعب، من فلاحين وطلاب وعمال ونخب سياسية.
في 1935، شهدت القاهرة حدثًا آخر في هذا السياق. ففي يوم 13 نوفمبر من ذلك العام، ألقى السير صمويل هور، وزير الخارجية البريطاني، خطابًا تهكم فيه على الدساتير المصرية، مشيرًا إلى أن دستور 1923 غير صالح، وأن دستور 1930 لا يتوافق مع رغبات الأمة. هذا الخطاب أثار غضب الشعب المصري، مما أدى إلى اندلاع تظاهرات جديدة في شوارع القاهرة، وقد قابلتها السلطات بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، فسقط أول قتيل من عمال سرادق الاحتفال بعيد الجهاد.
لم تكن تلك الأحداث مجرد وقائع تاريخية عابرة، بل كانت تعبيرًا عن روح المقاومة التي ظل الشعب المصري يحملها في قلبه لعقود طويلة. وكان عيد الجهاد رمزًا لهذه الروح، ورغم إلغاء الاحتفال به في عام 1952 بعد قيام حركة الضباط الأحرار، إلا أن ذكراه تظل خالدة في نفوس المصريين.
وعلى مدى السنوات التالية، ظل الشعب المصري يواصل نضاله من أجل الحرية والاستقلال، مستلهمًا من تضحيات زعمائه وفي مقدمتهم سعد زغلول. وظل “عيد الجهاد” رمزًا لهذه التضحيات، وشهادة حية على وحدة الشعب المصري وتكاتفه ضد الاحتلال.
تمر اليوم الذكرى 106 لهذا العيد، وما زالت قيمه ومبادئه حية في وجدان الأمة. إنه درس تاريخي يذكرنا دائمًا أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع بنضال الشعوب وإرادتهم، وأن التضحيات التي قدمها أجدادنا ستظل مصدر إلهام للأجيال القادمة.
عيد الجهاد ليس مجرد ذكرى في التاريخ، بل هو محطة ملهمة تذكرنا بأن النضال من أجل الحرية هو السبيل الوحيد للاستقلال، وأن إرادة الشعوب قادرة على قلب موازين القوى مهما كانت التحديات.