في ظل أزمات مالية متفاقمة وضغوط اقتصادية متزايدة، يشهد القطاع البنكي في مصر طفرة غير مسبوقة في حجم القروض الممنوحة للعملاء.
فقد ارتفعت أرصدة قروض البنوك بأكثر من 2 تريليون جنيه خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، بنمو بلغ 22.5%. تلك الأرقام الكارثية التي أظهرت أن القروض بلغت 12.4 تريليون جنيه بنهاية سبتمبر 2024 مقارنة بـ 10.09 تريليون جنيه فقط في ديسمبر 2023.
ورغم أن هذه الأرقام تبدو للبعض مؤشراً على نشاط اقتصادي، إلا أنها تخفي وراءها أزمة ضخمة تلقي بظلالها على مستقبل الاقتصاد المصري.
المحللون الاقتصاديون والخبراء الماليون أطلقوا تحذيرات صارخة حول هذا الارتفاع المريب في حجم القروض، محذرين من أنه يعكس عمق الفجوة الاقتصادية التي تواجهها مصر، ويبرز بوضوح تقاعس الحكومة المصرية عن اتخاذ التدابير اللازمة للحد من التضخم الجامح الذي يلتهم جيوب المواطنين ويزيد من أعبائهم.
ارتفاع القروض وسط أزمة تضخم خانقة: هل هي حلول حقيقية أم المزيد من الغرق؟
سارة سعادة، كبيرة محللي الاقتصاد الكلي في شركة “سي آي كابيتال”، أوضحت أن هذا النمو الهائل في القروض البنكية يأتي نتيجة تحرير سعر الصرف الذي ضاعف قيمة محافظ الأصول الأجنبية وأهمها القروض بالعملات الأجنبية.
ورغم أن أسعار الفائدة في مصر وصلت إلى أعلى مستوياتها التاريخية، إلا أن ذلك لم يوقف عجلة الاقتراض. هذا التفسير يسلط الضوء على سياسات مالية غير مدروسة تركت المواطن العادي يغرق في دوامة الديون مع استمرار الحكومة في تجاهل تداعيات قراراتها الاقتصادية الكارثية.
وفي ذات السياق، أشار مسؤول ائتمان بأحد البنوك – رفض ذكر اسمه – إلى أن النمو في القروض كان متوقعاً بسبب استمرار ارتفاع معدلات التضخم لفترات طويلة، وهو ما أثر بشكل مباشر على حجم وقيمة الائتمان الممنوح للعملاء.
ومع ارتفاع الأسعار الجنوني، اضطر العديد من العملاء، سواء كانوا أفراداً أو شركات، إلى طلب قروض أكبر لتغطية التكاليف المتزايدة، ما أدى إلى تضخم محافظ البنوك الائتمانية دون زيادة فعلية في أعداد المستفيدين. ما يحدث هو أن البنوك تحقق أرباحاً هائلة من خلال هذه القروض، في حين يتحمل المواطن المصري العبء الأكبر.
القروض الأجنبية: بين المكاسب المؤقتة والكوارث المستقبلية
تحرير سعر الصرف كان له أثر كارثي على محافظ القروض الأجنبية، حيث نمت هذه المحافظ بمعدلات تفوق 60%. هذا الرقم يعكس بشكل واضح الأثر السلبي لتحرير سعر الصرف على الاقتصاد المصري، إذ دفع معدلات نمو الائتمان البنكي إلى مستويات غير مسبوقة.
ولكن هل هذا النمو في القروض الأجنبية يعد نجاحاً أم أنه مجرد انعكاس لفشل السياسات الاقتصادية التي أدت إلى انهيار قيمة العملة المحلية؟
الجواب هنا يكمن في الحقيقة المُرّة التي يعيشها المواطن المصري الذي يرزح تحت وطأة ديون ترتفع يوماً بعد يوم، بينما تستمر الحكومة في تبني سياسات مالية تخدم البنوك ورجال الأعمال على حساب المواطن العادي.
القطاع الخاص يغرق في الديون: من المستفيد الحقيقي؟
أما عن قروض القطاع الخاص، فقد حققت نمواً بنسبة 24.8% خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، بزيادة قدرها 508.3 مليار جنيه، لتصل إلى 2.6 تريليون جنيه بنهاية سبتمبر 2024، مقارنة بـ 2.04 تريليون جنيه في ديسمبر 2023، وفقاً لبيانات البنك المركزي المصري.
هذا النمو الهائل في قروض القطاع الخاص يأتي في وقتٍ يعاني فيه هذا القطاع من تحديات ضخمة تتمثل في ارتفاع التكاليف التشغيلية نتيجة التضخم وانهيار القدرة الشرائية.
وفي تعليق على هذا الوضع، أكد محلل مالي بأحد البنوك التجارية أن تطبيق أغلب البنوك لنظام الفائدة المتغيرة عند إبرام القروض أدى إلى تضخم قيمة محافظ الائتمان بعد رفع معدلات الفائدة.
ولكن هذا النظام يزيد من الأعباء المالية على الشركات، ما يدفعها إلى الاستدانة أكثر لتغطية تكاليفها، مما يعزز حلقة الديون التي لا تنتهي.
ورغم هذه الأزمة، تتوقع الحكومة أن تزيد حصة قروض القطاع الخاص من أرصدة الإقراض البنكي خلال العام المقبل، متجاهلة تماماً المخاطر الكامنة وراء هذه التوقعات، خاصة في ظل استمرار ارتفاع الفائدة.
ورغم أن هناك حديثاً عن تخفيضات متوقعة في أسعار الفائدة مستقبلاً، إلا أن هذا لن يكون كافياً لتعويض الخسائر التي تكبدها القطاع الخاص نتيجة هذه السياسات العشوائية.
القطاع الحكومي في مقدمة المستفيدين: التلاعب بأموال الشعب
القطاع الحكومي استحوذ على النصيب الأكبر من أرصدة القروض البنكية في مصر، بنسبة 56.8% من إجمالي القروض، مسجلاً نمواً بلغ 17.3% وزيادة تتجاوز تريليون جنيه خلال الأشهر التسعة الأولى من العام.
هذا الرقم الكارثي يشير إلى أن الحكومة المصرية تستغل النظام البنكي لتمويل عجزها المالي المتزايد، وهو ما يضع الاقتصاد المصري في مأزق خطير. فبدلاً من اتخاذ إجراءات إصلاحية حقيقية لتحسين أوضاع البلاد الاقتصادية، نجد أن الحكومة تلجأ إلى القروض كحل مؤقت لأزمات متفاقمة دون النظر إلى العواقب المستقبلية.
الأفراد والديون: شبح الفقر يلاحق المصريين
أما قروض الأفراد، فقد شهدت نمواً بلغ 17% خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، لتصل إلى 1.1 تريليون جنيه بنهاية سبتمبر مقارنة بـ 940 مليار جنيه بنهاية 2023.
هذه الزيادة الكبيرة في قروض الأفراد تعكس مدى تدهور الأوضاع الاقتصادية للمواطن المصري الذي أصبح يعتمد بشكل متزايد على الاقتراض لتغطية احتياجاته اليومية. ولكن هل هذا النمو في قروض الأفراد يعبر عن تحسين في مستوى المعيشة، أم أنه مجرد مؤشر على حجم الفقر المتزايد والديون التي تثقل كاهل المواطن العادي؟
أين الحكومة من هذه الكارثة؟
في ظل هذه الأرقام الصادمة، يبرز السؤال الأهم: أين الحكومة من هذه الكارثة؟ ما يحدث في القطاع البنكي ليس سوى انعكاس لفشل سياسات الدولة الاقتصادية التي تفاقم الأزمات بدلاً من حلها.
وعلى الرغم من الوعود المتكررة بالإصلاح، إلا أن ما نشهده هو زيادة مستمرة في حجم القروض والديون التي تثقل كاهل المواطن والاقتصاد على حد سواء.
الحكومة المصرية تبدو وكأنها في غيبوبة مالية، تعتمد على الاقتراض كحل سريع للأزمات، متجاهلة أن هذا الطريق لن يؤدي إلا إلى المزيد من الغرق في دوامة الديون