الدكتور هاني سري الدين يكتب : تعالوا نتعلم من مذكرات سعد زغلول
لم تبهرنى مذكرات ولم تمتعنى سيرة، ولم تختطفنى كتابة بالساعات والساعات
مثلما فعلت معى مذكرات الزعيم الخالد سعد زغلول
تجلس إليها لتراجع ) حدثا ما ، فتأسرك المذكرات وتستغرقك لتبحر بك بعيدا في
الماضي لتعرف دروسا ملهمة ومتنوعة تبدأ بدرس الوطنية وسيادة الشعب
وحتمية احترام الدستور والقانون، وتنتهى بطريقة التعامل مع الشخصيات
الغريبة، وضرورة احتساب كل إنفاق، والاعتبار بكل حدث، ومعاتبة النفس
مرارا وتكرارا.
أقف مذهولا أمام العبارة الافتتاحية للمذكرات وهي تقول «الويل لى ولمن
يطالعون من بعدى هذه المذكرات وكأنه يتنبأ بأن التزامه الشديد بالصدق
الإنساني فيما يحكى ويقول يمكن أن يتم توظيفه من قبل خصومه لتشويهه، وهو
ما جرى طوال عقود طويلة، حتى أن قامات علمية فريدة تورطت في تحريف
مقاصد الرجل فزعمت عنه ما لم يفعل وحورت ما خطه لتحد من إنجازاته
في تاريخ الأمة المصرية، وعلى الرغم من ذلك نجد أن باحثا مرموقا ونبيلا هو
الدكتور عبد العظيم رمضان رحمه الله رصد كل ذلك فدونه بحيادية ونزاهة في
مقدمة المذكرات.
ويرى عبد العظيم رمضان أن سعد باشا كان يكتب بصراحة لا حدود لها، كمن
يجعل نفسه غنيمة سهلة لمن يريد أن يهاجمه من بعده، يكتب الرجل رأيه في كل
شيء، حتى فى بعض تصرفاته الخاصة، لدرجة أنه ينتقد نفسه مرارا ويقسو عليها
بعنفها، ويبحث عن الحق أينما كان ، ويُرتب أولوياته دائما مقدما المصالح الوطنية
على كل مصلحة، ويرى رأيا ما فيتمسك به، ثم يرى غيره مقتنعا بمشورات نجباء
حوله فيرجع إلى ما رأوه.
وهو مثقف يقرأ ويتابع المعارف والعلوم بعدة لغات، ولا يجد حرجا أن يتعلم
اللغة الإنجليزية في سن متقدمة، وهو رجل يهتم بالتفاصيل ويدقق في كل شيء؟
حرصا على الإتقان الشديد والإلمام التام والعناية الكاملة، وهو يفهم طريقة
تفكير المصريين والأوروبيين، ويجيد مخاطبة كل إنسان بلغته وأسلوبه.
وهو شخص شديد الصلابة، مثابر ، لا يضع أمرا أو هدفا يرى فيه مصلحة بلاده،
الا وقطع كل طريق تجاهه، تنتابه فى بعض الأحيان لحظات ضيق، وأوقات إحباط،
مثله فى ذلك مثل كل البشر، لكنه لا يلبث أن ينفض عن نفسه أفكار اليأس، مؤمنا
ان قصد الحق لابد منه، ويوصله إلى مراده فى النهاية مهما كانت العقبات.
واللطيف في المذكرات ذلك الصبر الطويل الذي يدفع صاحبها إلى ذكر تفاصيل
في الحياة اليومية قد تبدو المعاصريه غير ذات جدوى، لكنها تمثل لنا الآن جوانب
مهمة للمعارف التاريخية.
وهو لا يكاد يفعل أمرا أو يرى رأيا – حتى في أموره الحياتية الشخصية مثل شراء
أرض أو تغيير أثاث – إلا ويذكر الله فيه، فيسأله السداد والتوفيق، ويستعيذ به من
الضلال والإخفاق لدرجة أنه يتحدث مثلا عن أطيان اشتراها وباعها بالخسارة
فيقول عن ذلك والله معوض الخسائر وجابر الكسائر».
والرجل بليغ في تعبيراته، ذكى فى اختيار مفرداته، وكأنه أديب أوتى سحر البيان
وجاذبية اللغة، قادر أن يقدم شهادة مختلفة تشتبك فيها المذكرات العامة بالحكي
الإنساني الشخصي لنجد أنفسنا أمام شخص استثنائى فى كل ،أمر جدير بقيادة
أبرز وأعظم ثورات مصر الحديثة فيما بعد.
ويبقى الرجل كتابا معلما بما خط وسجل فى أكثر من ثلاثة آلاف صفحة، نشرها
و درسها وحققها بجهد يقدر العالم المرحوم عبد العظيم رمضان، الذي ترك لنا
تسعة أجزاء مهمة وعظيمة، ومن بعده حققت الدكتورة لطيفة سالم ثلاثة أجزاء،
تحمل دروسا خالدة للمصريين فى كل جيل، وحق عليهم تعلمها.